ملخص عن كتاب: اللمع في أصول الفقه ***
هذا كتاب في أصول الفقه على المذهب الشافعي، وضعه مصنفه إجابة لطلب بعض إخوانه في أن يصنف لهم مختصرًا في أصول المذهب، وقد بدأ في تصنيفه سنة (455هـ) وفرغ منه في سنة (469هـ)، وقد اختصر فيه المصنف كتاب «التبصرة في أصول الفقه» له، وقد تميز هذا الكتاب عن باقي كتب الأصول بأنه يحتوي على كثير من الأدلة والمناقشات القوية والمفيدة، وقد اعتنى بشأنه فقهاء الشافعية؛ فقد شرحه المصنف نفسه، وكذلك شرحه ضياء الدين الكردي، وشرحه أيضًا أبو محمد عبد الله بن أحمد البغدادي.
التصنيف الفرعي للكتاب: أصول فقه
إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزابادي الشيرازي، أبو إسحاق جمال الدين، العلامة المناظر، ولد في فيروزاباد (بفارس) سنة (393هـ)، وانتقل إلى شيراز فقرأ على علمائها، وانصرف إلى البصرة ومنها إلى بغداد (سنة 415هـ) فأتم ما بدأ به من الدرس والبحث، وظهر نبوغه في علوم الشريعة الإسلامية، فكان مرجع الطلاب ومفتي الأمة في عصره، واشتهر بقوة الحجة في الجدل والمناظرة، وبنى له الوزير نظام الملك المدرسة النظامية على شاطئ دجلة، فكان يدرس فيها ويديرها. عاش فقيرا صابرا، وكان حسن المجالسة، طلق الوجه، فصيحا مناظرا، ينظم الشعر، مات ببغداد سنة (476هـ) وصلى عليه المقتدي العباسي.
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، الحمد لله كما هو أهله، وصلواته على محمد خاتم النبيين، وسيد المرسلين، سألنى بعض اخوانى ان أصنف مختصرا فى المذهب فى أصول الفقه ليكون ذلك مضافا إلى ما عملت من التبصرة، فى الخلاف فأجبته إلى ذلك إيجابا لمسألته وقضاء لحقه، وأشرت فيه إلى ذكر الخلاف وما لابد منه من الدليل، فربما وقع ذلك الى من ليس عنده ماعملت من الخلاف. والى الله تعالى أرغب ان يوفقنى للصواب ويجزل لى الأجر والثواب، إنه كريم وهاب.
ولما كان الغرض بهذا الكتاب أصول الفقه وجب بيان العلم والظن وما يتصل بهما لأن بهما يدرك جميع مايتعلق بالفقه،ثم نذكر النظر والدليل وما يتصل بهما لأن بذلك يحصل العلم والظن،ثم نبين الفقه وأصول الفقه إن شاء الله.
باب بيان العلم والظن وما يتصل بهما
نقدم على ذلك بيان الحد،لأن به يعرف حقيقة كل ما نريد ذكره. والحد هو عبارة عن المقصود بمايحصره ويحيط به إحاطة تمنع أن يدخل فيه ماليس منه أو يخرج منه ما هو منه. ومن حكم الحد أن يطرد وينعكس، فيوجد المحدود بوجوده وينعدم بعدمه.
فأما العلم فهو معرفة المعلوم على ماهو عليه. وقالت المعتزلة هو إعتقاد الشئ على ما هو به مع سكون النفس إليه. وهذا غير صحيح، لأن هذا باطل باعتقاد العاصى فيما يعتقده، فإن هذا المعنى موجود فيه وليس ذلك بعلم.
والعلم ضربان: قديم ومحدث.فالقديم علم الله عز وجل، وهو متعلق بجميع المعلومات، ولايوصف بأنه ضرورى ولا مكتسب. والمحدث علم الخلق، وقد يكون ضروريا وقد يكون مكتسبا فالضرورى: كل علم لزم المخلوق على وجه لايمكنه دفعه عن نفسه بشك ولاشبهة. وذلك كالعلم الحاصل عن الحواس الخمس التى هى: السمع والبصر والشم والذوق واللمس، والعلم بما تواترت به الأخبار من ذكرالأمم السالفة والبلاد النائية، وما يحصل فى النفس من العلم بحال نفسه من الصحة والسقم والغم والفرح، وما يعلمه من غيره من النشاط والفرح والغم والترح وخجل الخجل ووجل الوجل وما أشبهه مما يضطرإلى معرفته. والمكتسب: كل علم يقع عن نظر واستدلال كالعلم بحدوث العالم وإثبات الصانع وصدق الرسل ووجوب الصلاة وأعدادها ووجوب الزكاة ونصبها وغير ذلك مما يعلم بالنظر والاستدلال.
تعريف الجهل والظن.
وحد الجهل: تصور المعلوم على خلاف ماهو به. والظن: تجويز أمرين أحدهما أظهر من الآخر، كاعتقاد الإنسات فيما يخبر به الثقة أنه على ما أخبر به وان جاز ان يكون بخلافه، وظن الإنسان فى الغيم المشف الثخين أنه يجئ منه المطر وان جوز ان يتقشع عن غير مطر، واعتقاد المجتهدين فيما يفتون به فى مسائل الخلاف وان جوزوا أن يكون الأمر بخلاف ذلك وغير ذلك مما لايقطع به.
والشك تجويز أمرين لامزية لأحدهما على الآخر، كشك الإنسان فى الغيم المشف انه يكون منه مطر أم لا، وشك المجتهد فيما لم يقطع به من الأقوال، وغير ذلك من الأمورالتى لايغلب فيها أحد التجويزين على الآخر.
والنظر هو الفكر فى حال المنظور فيه. وهو طريق الى معرفة الأحكام اذا وجد بشروطه ومن الناس من أنكر النظر،وهذا خطأ لأن العلم يحصل بالحكم عند وجوده، فدل على أنه طريق له.
وأما شروطه فأشياء: أحدها ان يكون الناظر كامل الآلة على ما نذكره فى باب المفتى ان شاء الله تعالى. والثانى ان يكون نظره فى دليل لا فى شبهة.والثالث ان يستوفى الدليل ويرتبه على حقه،فيقدم ما يجب تقديمه ويؤخر ما يجب تأخيره.
وأما الدليل فهو المرشد الى المطلوب، ولافرق فى ذلك بين ما يقع به من الأحكام وبين مالايقع به. قال أكثر المتكلمين لايستعمل الدليل الا فيما يؤدى الى العلم، فأما ما يؤدى الى الظن فلا يقال له دليل وإنما يقال له أمارة. وهذا خطأ لأن العرب لا تفرق فى تسمية بين ما يؤدى الى العلم أوالظن، فلم يكن لهذا الفرق وجه. وأما الدال: فهو الناصب للدليل, وهو الله عز وجل. وقيل هو والدليل واحد، كالعالم والعليم، وان كان أحدهما أبلغ. والمستدل: هو الطالب للدليل، ويقع ذلك على السائل لأنه يطلب الدليل من المسئول، وعلى المسئول لأنه يطلب الدليل من الأصول. والمستدل عليه: هو الحكم الذى هو التحريم والتحليل. والمستدل له: يقع على الحكم لأن الدليل يطلب له، ويقع على السائل لأن الدليل يطلب له. والاستدلال:هو طلب الدليل، وقد يكون ذلك من السائل للمسئول، وقد يكون من المسئول فى الأصول.
والفقه معرفة الأحكام الشرعية التى طريقها الاجتهاد. والأحكام الشرعية هى:الواجب والمندوب والمباح والمحظور والمكروه والصحيح والباطل. فالواجب ماتعلق العقاب بتركه، كالصلوات الخمس والزكوات وردالودائع والمغصوب وغيرذلك والمندوب مايتعلق الثواب بفعله ولايتعلق العقاب بتركه، كصلوات النفل وصدقات التطوع وغير ذلك من القرب المستحبة.والمباح ما لاثواب بفعله ولاعقاب بتركه،كأكل الطيب ولبس الناعم والنوم والمشى وغير ذلك من المباحات والمحظور ماتعلق العقاب بفعله، كالزنا واللواط والغصب والسرقة وغير ذلك من المعاصى. والمكروه ماتركه أفضل من فعله، كالصلاة مع الإلتفات والصلاة فى أعطان الإبل واشتمال الصماء وغير ذلك مما نهى عنه على وجه التنزيه. والصحيح ماتعلق به النفوذ وحصل به المقصود، كالصلوات الجائزة والبيوع الماضية. والباطل مالايتعلق به النفوذ ولايحصل به المقصود، كالصلاة بغير طهارة وبيع ما لايملك وغير ذلك مما لايعتد به من الأمور الفاسدة.
وأما أصول الفقه فهى أدلة الفقه، فهى الأدلة التى يبنى عليها الفقه وما يتوصل بها الى الأدلة على سبيل الاجمال. والأدلة ههنا خطاب الله عز وجل وخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وإقراره وإجماع الأمة والقياس والبقاء على حكم الأصل عند عدم هذه الأدلة وفتيا العالم فى حق العامة، وما يتوصل به الى الأدلة فهو الكلام على تفصيل هذه الأدلة ووجهها وترتيب بعضها على بعض. وأول مايبدأ به الكلام على خطاب الله عز وجل وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم،لأنهما أصل لما سواهما من الأدلة، ويدخل فى ذلك أقسام الكلام والحقيقة والمجاز والأمر والنهى والعموم والخصوص والمجمل والمبين والمفهوم والمؤول والناسخ والمنسوخ، ثم الكلام فى أفعال رسول الله صلى عليه وسلم واقراره لأنهما يجريان مجرى أقواله فى البيان،ثم الكلام فى الأخبار لأنها طريق الى معرفة ماذكرناه من الأقوال والأفعال،ثم الكلام فى الإجماع لأنه ثبت كونه دليلا بخطاب الله عز وجل وخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنهما ينعقد، ثم الكلام فى القياس لأنه ثبت كونه دليلا بما ذكر من الأدلة و إليها يستند ثم نذكر حكم الأشياء فى الأصل لأن المجتهد إنما يفزع إليه عند عدم هذه الأدلة، ثم نذكر فتيا العالم وصفة المفتى والمستفتى لأنه إنما يصير طريقا للحكم بعد العلم بما ذكرناه، ثم نذكر الإجتهاد وما يتعلق به إن شاء الله.
جميع ما يتلفظ به من الكلام ضربان: مهمل ومستعمل. فالمهمل مالم يوضع للإفادة.والمستعمل ما وضع للافادة ,وذلك ضربان: احدهما مايفيد معنى فيما وضع له ,وهى الألقاب كزيد وعمرو وما أشبهه.والثانى ما يفيد معنى فيما وضع له ولغيره وذلك ثلاثة أشياء: إسم وفعل وحرف على ما يسميه أهل النحو. فالاسم كل كلمة دلت على معنى فى نفسها مجرد عن زمان مخصوص كالرجل والفرس والحمار وغير ذلك.والفعل كل كلمة دلت على معنى فى نفسها مقترن بزمان كقولك ضرب ويقوم وما أشبهه.والحرف ما لايدل على معنى فى نفسه ودل على معنى فى غيره كمن وإلى وعلى و أمثاله. وأقل كلام مفيد ما بنى من اسمين كقولك زيد قائم وعمرو أخوك، أو ما بنى من اسم وفعل كقولك خرج زيد ويقوم عمرو. وأما ما بنى من فعلين أو من حرفين أو من حرف واسم أو حرف وفعل فلا يفيد إلا ان يقدر فيه شيء مما ذكرناه كقولك يا زيد فإن معناه أدعو زيدا.
والكلام المفيد ينقسم الى حقيقة ومجاز. وقد وردت اللغة بالجميع ونزل به القرآن. و من الناس من أنكر المجاز فى اللغة، وقال ابن داود ليس فى القرآن مجاز. وهذا خطأ لقوله تعالى ” جدارا يريد ان ينقض ” ونحن نعلم ضرورة أنه لا إرادة للجدار، وقال تعالى ” واسئل القرية ” ونحن نعلم ضرورة أن القرية لاتخاطب، فدل على أنه مجاز.فأما الحقيقة فهى الأصل. وحدها كل لفظ يستعمل فيما وضع له من غير نقل. وقيل ما استعمل فيما أصطلح على التخاطب به. وقد يكون للحقيقة مجاز كالبحر حقيقة للماء المجتمع الكثير ومجاز فى الفرس الجواد والرجل العالم. فإذا ورد اللفظ حمل على الحقيقة بإطلاقه ولايحمل على المجاز إلا بدليل. وقد لايكون له مجاز وهو أكثر اللغات، فيحمل على ما وضع له. وأما المجاز فحده ما نقل عما وضع له وقل التخاطب به. وقد يكون ذلك بزيادة ونقصان وتقديم وتأخير واستعارة، فالزيادة كقوله عز وجل ” ليس كمثله شيء ” والمعنى ليس مثله شيء والكاف زائدة، والنقصان كقوله تعالى ” واسئل القرية ” والمراد أهل القرية فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، والتقديم والتأخير كقوله عز وجل ” والذى أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى ” والمراد ” أخرج المرعى أحوى فجعله غثاء ” فقدم وأخر،والاستعارة كقوله تعلى ”جدارا يريد ان ينقض ” فاستعار فيه لفظ الإرادة.وما من مجاز الا وله حقيقة لأنا قد بينا ان المجاز ما نقل عما وضع له، وما وضع له هو الحقيقة.
ويعرف المجاز من الحقيقة بوجوه: منها ان يصرحوا بأنه مجاز، وقد بين أهل اللغة ذلك. وصنف أو عبيدة كتاب المجاز فى القرآن وبين جميع ما فيه من المجاز ومنها ان يستعمل اللفظ فيما لايسبق الى الفهم عند سماعه كقولهم فى البليد حمار والأبله تيس. ومنها ان يوصف الشيء ويسمى بما يستحيل وجوده كقوله ” و اسئل القرية”.ومنها أن لايجرى ولايطرد كقولهم فى الرجل الثقيل جبل ثم لايقال ذلك فى غيره , وفى الطويل نخلة ثم لايقال ذلك فى غيرالآدمى. ومنها ان لا يتصرف فيما أستعمل فيه كتصرفه فيما وضع له حقيقة كالأمر فى معنى الفعل لاتقول فيه أمر يأمر أمرا كما تقول فى الأمر بمعنى القول.
باب بيان الوجوه التى تؤخذ منها الأسماء واللغات
اعلم أن الاسماء واللغات تؤخذ من أربع جهات: من اللغة والعرف والشرع والقياس.فأما اللغة فما تخاطب به العرب من اللغات، وهى على ضربين. فمنها مايفيد معنى واحدا فيحمل على ما وضع له اللفظ كالرجل والفرس والتمر والبر وغير ذلك. ومنها ما يفيد معانى، وهى على ضربين: احدهما مايفيد معانى متفقة كاللون يتناول البياض والسواد وسائر الألوان والمشرك يتناول اليهودى والنصرانى، فيحمل على جميع مايتناوله إما على سبيل الجمع إن كان اللفظ يقتضى الجمع أو على كل واحد واحد منه على سبيل البدل إن لم يقتض اللفظ الجمع الا ان يدل الدليل على أن المراد شيء بعينه فيحمل على ما دل عليه الدليل. والثانى مايفيد معانى مختلفة كالبيضة تقع على الخوذة وبيض الدجاجة والنعامة والقرء يقع على الحيض والطهر، فإن دل الدليل على ان المراد به واحد منهما بعينه حمل عليه وإن دل الدليل على ان المراد به أحدهما ولم يعين لم يحمل على واحد منهما إلا بدليل إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر. وإن لم يدل الدليل على واحد منهما حمل عليهما وقال أصحاب أبى حنيفة وبعض المعتزلة لايجوز حمل اللفط الواحد على معنيين مختلفين. والدليل على جواز ذلك أنه لاتنافى بين المعنيين واللفظ يحتملهما فوجب الحمل عليهما كما قلنا فى القسم الذى قبله.
وأما العرف فهو ما غلب الإستعمال فيه على ما وضع له فى اللغة بحيث اذا أطلق سبق الفهم الى ما غلب عليه دون ماوضع له كالدابة وضع فى الأصل لكل ما دب ثم غلب عليه الاستعمال فى الفرس، والغائط وضع فى الأصل للموضع المطمئن من الأرض ثم غلب عليه الاستعمال فيما يخرج من الإنسان فيصير حقيقة فيما غلب عليه ,فاذا أطلق حمل على ما يثبت له من العرف.
واما الشرع فهو ما غلب الشرع فيه على ما وضع له اللفظ فى اللغة بحيث اذا أطلق لم يفهم منه إلا ما غلب عليه الشرع كالصلاة اسم للدعاء فى اللغة ثم جعل فى الشرع إسما لهذه المعروفة والحج إسم للقصد ثم نقل فى الشرع إلى هذه الأفعال فصار حقيقة فيما غلب عليه الشرع، فاذا أطلق حمل على مايثبت له من عرف الشرع. ومن أصحابنا من قال ليس فى الأسماء شيء منقول الى الشرع بل كلها مبقاة على موضوعها فى اللغة فالصلاة اسم للدعاء وانما الركوع والسجود زيادات أضيفت الى الصلاة وليست من الصلاة كما أضيفت إليها الطهارة وليست منها، وكذلك الحج اسم للقصد والطواف والسعى زيادات اضيفت الى الحج وليست من الحج، فاذا أطلق اسم الصلاة حمل على الدعاء واذا أطلق اسم الحج حمل على القصد. وهو قول الاشعرية والأول أصح. والدليل عليه أن هذه الأسماء اذا أطلقت فى الشرع لم يعقل منها المعانى التى وضعت لها فى اللغة فدل على أنها منقولة.
فصل: [في ما إذا ورد لفظ قد وضع فى اللغة لمعنى وفى العرف لمعنى]
إذا ورد لفظ قد وضع فى اللغة لمعنى وفى العرف لمعنى حمل على ما ثبت له فى العرف لأن العرف طارئ على اللغة، فكان الحكم له. وان كان قد وضع فى اللغة لمعنى وفى الشرع لمعنى حمل على عرف الشرع، لانه طارئ على اللغة، ولأن القصد بيان حكم الشرع، فالحمل عليه أولى.
وأما القياس فهو مثل تسمية اللواط زنا قياسا على وطء النساء وتسمية النبيذ خمرا قياسا على عصير العنب. وقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال يجوز إثبات اللغات والأسماء بالقياس، وهو قول أبى العباس و أبى على بن أبى هريرة.ومنهم من قال لايجوز ذلك.والأول أصح لأن العرب سمت ما كان فى زمانها من الأعيان بأسماء ثم انقرضوا وانقرضت تلك الأعيان وأجمع الناس على تسمية أمثالها بتلك الأسماء، فدل على أنهم قاسوها على الأعيان التى سموها.
باب القول فى بيان الامر وصيغته
إعلم ان الأمر قول استدعى به الفعل ممن هو دونه. ومن أصحابنا من زاد فيه على سبيل الوجوب. فأما الأفعال التى ليست بقول فإنها تسمى أمرا على سبيل المجاز. ومن أصحابنا من قال ليس بمجاز. قال الشيخ الإمام أيده الله وقد نصرت ذلك فى التبصرة.والاول أصح، لأنه لو كان حقيقة فى الفعل كما هو حقيقة فى القول لتصرف فى الفعل كما تصرف فى القول، فيقال أمر يأمر كما يقال ذلك اذا أريد به القول.
وكذلك ماليس فيه استدعاء كالتهديد، مثل قوله عز وجل ” اعملوا ما شئتم ”، والتعجيز كقوله تعالى ” قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ”، والإباحة مثل قوله عز وجل ”واذا حللتم فاصطادوا ” فذلك كله ليس بأمر. وقال البلخى من المعتزلة الإباحة أمر. وهذا خطأ لأن الإباحة هى الإذن، وذلك لايسمى أمرا ألا ترى أن العبد اذا استأذن مولاه فى الاستراحة وترك الخدمة فأذن له فى ذلك لايقال إنه أمره بذلك.
وكذلك ما كان من النظير للنظير, ومن الأدنى للأعلى، فليس بأمر وان كان صيغته صيغة أمر، وذلك كقول العبد لربه ”اغفر لى وارحمنى” فإن ذلك مسألة ورغبة.
واما الإستدعاء على وجه الندب فليس بأمر حقيقة ومن أصحابنا من قال هو أمر حقيقة. والدليل على أنه ليس بأمر قوله صلى الله عليه وسلم ” لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ”، ومعلوم أن السواك عند كل صلاة مندوب اليه، وقد أخبر أنه لم يأمر به , فدل على أن المندوب اليه غير مأمور به.
للأمر صيغة موضوعة فى اللغة تقتضى الفعل، وهو قوله ” أفعل ”، وقالت الأشعرية ليست للأمر صيغة. والدليل على أن له صيغة: ان أهل اللسان قسموا الكلام، فقالوا فى جملتها أمر ونهى. فالأمر قولك ” افعل” والنهى قولك ” لاتفعل”، فجعلوا قوله ” افعل ” بمجرده أمرا، فدل على أن له صيغة.
إذا تجردت صيغة الأمر اقتضت الوجوب فى قول أكثر اصحابنا. ثم اختلف هؤلاء، فمنهم من قال يقتضى الوجوب بوضع اللغة، ومنهم من قال يقتضى الوجوب بالشرع. ومن أصحابنا من قال يقتضى الندب. وقال بعض الأشعرية لايقتضى الوجوب ولاغيره الا بدليل. وقال المعتزلة الأمر يقتضى إرادة الفعل؛ فان كان ذلك من حكيم إقتضت الندب، وان كان من غيره لم يقتض أكثر من الإرادة. والدليل على أنها تقتضى الوجوب قوله صلى الله عليه وسلم ” لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ”، فدل على أنه لو أمر لوجب ولو شق، ولأن السيد من العرب اذا قال لعبده ” إسقنى ماء ” فلم يسقه استحق الذم والتوبيخ، فلو لم يقتض الوجوب لما استحق الذم عليه.
سواء وردت هذه الصيغة ابتداء أو وردت بعد الحظر، فإنها تقتضى الوجوب. وقال أصحابنا اذا وردت بعد الحظر اقتضت الإباحة. والدليل على انها تقتضى الوجوب ان كل لفظ اقتضى الإيجاب اذا لم يتقدمه حظر اقتضى الإيجاب وان تقدمه حظر كقوله أوجبت وفرضت.
فصل: [في الأمر لغير الوجوب]
اذا دل الدليل على انه لم يرد بالأمر الوجوب لم يجزالإحتجاج به فى الجواز ومن أصحابنا من قال يجوز. والأول أظهر لأن الأمر لم يوضع للجواز، وإنما وضع للإيجاب، والجواز يدخل فيه على سبيل التبع، فإذا سقط الوجوب سقط مادخل فيه على التبع.
باب فى أن الأمر يقتضى الفعل مرة واحدة أو التكرار
اذا وردت صيغة الأمر لإيجاب فعل وجب العزم على الفعل، ويجب تكرار ذلك كلما ذكر الأمر، لأنه اذا ذكر ولم يعزم على الفعل صار مصرا على العناد، وهذا لايجوز. وأما الفعل المأمور به؛ فإن كان فى اللفظ ما يدل على تكراره وجب تكراره، وإن كان مطلقا ففيه وجهان، ومن أصحابنا من قال يجب تكراره على حسب الطاقة، ومنهم من قال لايجب أكثر من مرة واحدة الا بدليل يدل على التكرار، وهو الصحيح. والدليل على ان اطلاق الفعل يقتضى ما يقع عليه الإسم ألا ترى أنه لو حلف ليفعلن بر بمرة واحدة، فدل على ان الاطلاق لايقتضى أكثر من ذلك.
فصل: [في تعليق الأمر بشرط]
فأما اذا علق الأمر بشرط؛ بأن يقول اذا زالت الشمس، فهل يقتضى التكرار؟، ان قلنا ان مطلق الأمر يقتضى التكرار فالمعلق بالشرط مثله وان قلنا ان مطلقه لايقتضى التكرار ففى المعلق بالشرط وجهانومن أصحابنا من قال يقتضى التكرار كلما تكرر الشرط. ومنهم من قال لايقتضى. وهو الأصح، لأن كل ما لايقتضى التكرار اذا كان مطلقا لم يقتض التكرار اذا كان بالشرط كالطلاق؛ لافرق بين أن يقول ” أنت طالق ” وبين أن يقول ” اذا زالت الشمس فأنت طالق ”.
فصل: [في تكرر الأمر بالفعل الواحد]
فأما اذا تكرر الأمر بالفعل الواحد، بأن قال” صل ” ثم قال ”صل ”؛ فإن قلنا إن مطلق الأمر يقتضى التكرار فتكرار الأمر يقتضى التأكيد، وان قلنا انه يقتضى الفعل مرة واحدة ففى التكرار وجهان: احدهما انه تأكيد، وهو قول الصيرفى. والثانى انه استئناف، وهو الصحيح. والدليل عليه ان كل واحد من الأمرين يقتضى إيجاد الفعل عند الإنفراد، فاذا اجتمعا أوجبا التكرار كما لو كان فعلين.
باب فى أن الأمر هل يقتضى الفعل على الفور أم لا
إذا ورد الأمر بالفعل مطلقا وجب العزم على الفعل على الفور،كما مضى فى الباب قبله وهل يقتضى الفعل على الفور؟ بنيت على التكرار؛ فإن قلنا ان الأمر يقتضى التكرار على حسب الاستطاعة وجب على الفور، لأن الحالة الأولى داخلة فى الإستطاعة، فلايجوز اخلاؤها من الفعل؛ وإن قلنا ان الأمر يقتضى مرة واحدة، فهل يقتضى ذلك على الفور أم لا فيه وجهان لأصحابنا: أحدهما انه لايقتضى الفعل على الفور. ومن أصحابنا من قال يقتضى ذلك على الفور، وهو قول الصيرفى والقاضى أبى حامد. والأول أصح، لأن قوله إفعل يقتضى إيجاد الفعل من غير تخصيص بالزمان الأول دون الثانى، فإذا صار ممتثلا بالفعل فى الزمان الأول، وجب أن يصير ممتثلا بالفعل فى الزمان الثانى.
فصل: [في ورود الأمر مقيدا بزمان]
فأما اذا ورد الأمر مقيدا بزمان نظرت؛ فإن كان الزمان يستغرق العبادة كالصوم فى شهر رمضان لزمه فعلها على الفور عند دخول الوقت، وإن كان الزمان أوسع من قدر العبادة كصلاة الزوال مابين الظهر الى ان يصير ظل كل شيء مثله وجب الفعل فى أول الوقت وجوبا موسعا، ثم اختلفوا هل يجب العزم فى أول الوقت بدلا عن الصلاة؟ فمنهم من لم يوجب. ومنهم من أوجب العزم بدلا عن الفعل فى أول الوقت. وقال أبوالحسن الكرخى يتعلق الوجوب بأحد شيئين: إما بالفعل أو بأن يضيق الوقت. وقال أكثر أصحاب أبى حنيفة يتعلق الوجوب بآخر الوقت. واختلف هؤلاء فيمن صلى فى اول الوقت: فمنهم من قال إن ذلك نفل؛ فإن جاء آخر الوقت وليس من أهل الوجوب فلا كلام فى أن ما فعله كان نفلا , وإن كان من أهل الوجوب منع ذلك النفل الذى فعله من توجه الفرض عليه فى آخر الوقت. ومنهم من قال فعله فى أول الوقت مراعى فإن جاء آخر الوقت وهو من أهل الوجوب علمنا انه فعل واجبا، وان لم يكن من أهل الوجوب علمنا انه فعل نفلا. والدليل على ماقلناه ان المقتضى للوجوب هو الأمر وقد تناول ذلك أول الوقت بقوله: ” أقم الصلاة لدلوك الشمس ” فوجب ان يجب فى أوله.
فإن فات الوقت الذى علق عليه العبادة فلم يفعل، فهل يجب القضاء أم لا؟ فيه: وجهان، من أصحابنا من قال يجب، ومنهم من قال لايجب الا بأمر ثان، وهو الأصح، لأن ما بعد الوقت لم يتناوله الأمر، فلا يجب الفعل فيه كما قبل الوقت.
اذا أمر بأمر بعبادة فى وقت معين ففعلها فى ذلك الوقت سمى أداء على سبيل الحقيقة، ولايسمى قضاء الا مجازا كما قال الله تعالى: ” فإذا قضيتم الصلاة فانتشروا فى الأرض ”. أما اذا دخل فيها فأفسدها أو نسي شرطا من شروطها فأعادها والوقت باق سمى إعادة وأداء، وان فات الوقت ففعلها بعد فوات الوقت سمى قضاء.
باب الأمر بأشياء هلى جهة التخيير والترتيب
اذا خير الله تعالى بين أشياء، مثل كفارة اليمين؛ خير فيها بين العتق والإطعام والكسوة، فالواجب منها واحد غير معين؛ فأيها فعل فقد فعل الواجب، وان فعل الجميع سقط الفرض عنه بواحد منها، والباقى تطوع. وقالت المعتزلة الثلاثة كلها واجبة؛ فإن أرادوا بوجوب الجميع تساوى الجميع فى الخطاب، فهو وفاق، وإنما يحصل الخلاف فى العبارة دون المعنى. وإن أرادوا بوجوب الجميع أنه مخاطب بفعل الجميع، فالدليل على فساده أنه اذا ترك الجميع لم يعاقب على الجميع، ولو كان الجميع واجبا لعوقب على الجميع، فلما لم يعاقب إلا على واحد دل على انه هو الواجب.
فصل: [في الأمر بأشياء على الترتيب]
فأما اذا أمر بأشياء على الترتيب كالمظاهر؛ أمر بالعتق عند وجود الرقبة وبالصيام عند عدمها وبالإطعام عند العجز عن الجميع فالواجب من ذلك واحد معين على حسب حاله؛ فان كان موسرا ففرضه العتق، وان كان معسرا ففرضه الصيام، وان كان عاجزا ففرضه الإطعام. فإن جمع من فرضه العتق بين الجميع سقط الفرض عنه بالعتق وما عداه تطوع، وان جمع من فرضه الصيام بين الجميع ففرضه أحد الأمرين من العتق أو الصيام، والإطعام تطوع. وان جمع من فرضه الإطعام بين الجميع ففرضه واحد من الثلاثة كالكفارة المخيرة.
باب ايجاب ما لايتم المأمور الا به
اذا أمر بفعل ولم يتم ذلك الفعل الا بغيره نظرت؛ فإن كان ذلك الأمر مشروطا بذلك الغير كالاستطاعة فى الحج والمال فى الزكاة لم يكن الأمر بالحج والزكان أمرا بتحصيل ذلك، لأن الأمر بالحج لم يتناول من لا استطاعة له وفى الزكاة من لا مال له، فلو ألزمناه تحصيل ذلك ليدخل فى الأمر لأسقطنا شرط الأمر، وهذا لايجوز. وان كان الأمر مطلقا غير مشروط كان الأمر بالفعل أمرا به وبما لا يتم الا به، و ذلك كالطهارة للصلاة، الأمر بالصلاة أمر بالطهارة، أو كغسل شيء من الرأس لاستيفاء الفرض عن الوجه. فلو لم يلزمه ما يتم به الفعل المأمور به أسقطنا الوجوب فى المأمور.ولهذا قلنا فيمن نسي صلاة من صلوات اليوم والليلة ولم يعرف عينها أنه يجب عليه قضاء خمس صلوات لتدخل المنسية فيها.
فصل: [في الأمر بصفة العبادة]
وأمااذا أمر بصفة عبادة؛ فإن كانت الصفة واجبة كالطمأنينة فى الركوع، دل على وجوب الركوع، لأنه لا يمكنه ان يأتى بالصفة الواجبة الا بفعل الموصوف، وان كانت الصفة ندبا كرفع الصوت بالتلبية لم يدل ذلك على وجوب التلبية. ومن الناس من قال تدل على وجوب التلبية، وهذا خطأ لأنه قد يندب الى صفة ما هو واجب وما هو ندب فلم يكن فى الندب دليل على وجوب الأصل.
فصل: [في أن الأمر بشيء نهي عن ضده]
واذا أمر بشيء كان ذلك نهيا عن ضده من جهة المعنى؛ فان كان ذلك الأمر واجبا كان النهى عن ضده على سبيل الوجوب، وان كان ندبا كان النهى عن ضده على سبيل الندب. ومن أصحابنا من قال ليس بنهى عن ضده، وهو قول المعتزلة. والدليل على ماقلناه انه لايتوصل الى فعل المأمور الا بترك الضد فهو كالطهارة فى الصلاة.
فصل: [في الأمر باجتناب شيء]
فأما اذا أمر باجتناب شيء ولم يمكنه الإجتناب الا باجتناب غيره فهذا على ضربين: أحدهما ان يكون فىاجتناب الجميع مشقة فيسقط حكم المحرم فيه فيسقط عنه فرض الإجتناب وهو كمااذا وقع فى الماء الكثير نجاسة أو اختلطت أخته بنساء بلد، فلا يمنع من الوضوء بالماء ولا من نكاح نساء ذلك البلد. والثانى ان لايكون فى اجتناب الجميع مشقة، فهذا على ضربين: أحدهما ان يكون المحرم مختلطا بالمباح كالنجاسة فى الماء القليل، والجارية المشتركة بين الرجلين، فيجب اجتناب الجميع. والثانى ان يكون غير مختلط إلا أنه لايعرف المباح بعينه، فهذا على ضربين: ضرب يجوز فيه التحرى، وهو كالماء الطاهر اذا اشتبه بالماء النجس فيتحرى فيه، وضرب لايجوز فيه التحرى وهو الأخت اذا اختلطت بأجنبية، والماء اذا اشتبه بالبول، فيجب اجتناب الجميع.
باب فى أن الأمر يدل على إجزاء المأمور به
واعلم أنه اذا أمر الله تعالى بفعل لم يخل المأمور إما ان يفعل المأمور به على الوجه الذى تناوله الأمر أو يزيد على ما تناوله الأمر أو ينقص فإن فعلعلىالوجه الذى تناوله الأمر أجزأه ذلك بمجرد الأمر. وقال بعض المعتزلة الأمر لايدل على الإجزاء، بل يحتاج الآخر الى دليل آخر. وهذا خطأ، لأنه قد فعل المأمور به على الوجه الذى تناوله الأمر، فوجب ان يعود الى ما كان قبل الأمر.
فصل: [في ما إذا زاد على المأمور]
فأما اذا زاد على المأمور، بأن يأمره بالركوع فيزيد على ما يقع عليه الإسم سقط الفرض عنه بأدنى مايقع عليه الإسم، والزيادة على ذلك تطوع لايدخل فى الأمر. وقال بعض الناس الجميع واجب داخل فى الأمر.وهذا باطل لأن ما زاد على الإسم يجوز له تركه على الاطلاق، فاذا فعله لم يكن واجبا كسائر النوافل.
فصل: [في ما إذا نقص عن المأمور]
فأما اذا نقص عن المأمور نظرت، فإن نقص منه ما هوشرط فى صحته كالصلاة بغير قراءة لم يجزه، ولم يدخل فى الأمر، لأنه لم يأت بالمأمور على الوجه الذى أمر به. وإن نقص منه ماليس بشرط كالتسمية فى الطهارة أجزأه فى المأمور به، وهل يدخل ذلك فى الأمر؟ الظاهر من قول أصحابنا أنه لايدخل فى الأمر، وقال أصحاب أبى حنيفة يدخل فى الأمر. وهذا غير صحيح، لأن المكروه منهى عنه، فلا يجوز أن يدخل فى لفظ الأمر كالمحرم.
باب من يدخل فى الأمر ومن لايدخل فيه
اعلم ان الساهى لايجوز ان يدخل فى الأمر والنهى، لأن القصد الى التقرب بالفعل والترك يتضمن العلم به حتى يصح القصد اليه، وهذا يستحيل فى حق الناسى، ألا تري انه لو قيل له ” لا تتكلم فى صلاتك وأنت ساه ” لوجب ان يقصد الى ترك ما يعلم انه ساه فيه، وعلمه بأنه ساه يمنع كونه ساهيا، فبطل خطابه على هذه الصفة.
فصل: [في خطاب النائم والمجنون]
وكذلك لايجوز خطاب النائم ولا المجنون ولا السكران لأنه لو جاز خطابهم مع زوال العقل لجاز خطاب البهيمة والطفل فى المهد، وهذا لا يقوله أحد.
وأما المكره فيصح دخوله فى الخطاب والتكليف. وقالت المعتزلة لايصح دخوله تحت التكليف. وهذا خطأ، لأنه لو لم يصح تكليفه لما كلف ترك القتل مع الإكراه، ولأنه عالم قاصد الى ما يفعله، فهو كغير المكره.
وأما الصبى فلا يدخل فى خطاب التكليف، فإن الشرع قد ورد بإسقاط التكليف عنه. وأما إيجاب الحقوق فى ماله فيجوز ان يدخل فيه كالزكوات والنفقات، فإن التكليف والخطاب فى ذلك على وليه دونه.
وأما العبيد فإنهم يدخلون فى الخطاب. ومن أصحابنا من قال لايدخلون فى خطاب الشرع الا بدليل. وهذا خطأ، لأن الخطاب يصلح لهم كما يصلح للأحرار.
وأما الكفار فإنهم يدخلون أيضا فى الخطاب. ومن أصحابنا من قال لايدخلون فى الشرعيات. ومن الناس من قال يدخلون فى المنهيات دون المأمورات. والدليل على أنهم يدخلون فى الجميع قوله عز وجل ” ماسلككم فى سقر قالوا لم نك من المصلين ”، ولو لم يكونوا مخاطبين بالصلاة لما عاقبهم عليها، ولأن صلاح الخطاب لهم كصلاحه للمسلمين، فكما دخل المسلمون وجب أن يدخل الكفار.
وأما النساء فإنهن لايدخلن فى خطاب الرجال. وقال أبو بكر بن داود وأصحاب أبى حنيفة يدخلن وهذا خطأ، لأن للنساء لفظا مخصوصا، كما أن للرجال لفظا مخصوصا،.كما أن للرجال لفظا مخصوصا، فكما لم تدخل الرجال فى خطاب النساء لم تدخل النساء فى خطاب الرجال.
فصل: [في خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم]
وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يدخل فى كل خطاب خوطب به الأمة كقوله تعالى: ” يا أيها الناس ويا أيها الذين آمنوا ” وغير ذلك لأن صلاح اللفظ له كصلاحه لكل أحد من الأمة، فكما دخلت الأمة دخل النبى صلى الله عليه وسلم. وأما اذا خوطب النبى صلى الله عليه وسلم بخطاب خاص لم يدخل معه غيره الا بدليل كقوله تعالى:” يا أيها النبى ويا أيها المزمل قم الليل ”وقوله: ” يا أيها النبى قل لأزواجك ”. ومن الناس من قال ما ثبت أنه شرع له دخل غيره معه فيه، وهذا خطأ لأن الخطاب مقصور عليه، فمن زعم ان غيره يدخل فيه فقد خالف مقتضى الخطاب.
فصل: [في ما إذا أمر صلى الله عليه وسلم أمته بشيء]
فأما اذا أمر صلى الله عليه وسلم أمته بشيء لم يدخل هو فيه ومن أصحابنا من قال يدخل فيما يأمر به الأمة. وهذا خطأ لأن ماخاطب به الأمة من الخطاب لايصح له، فلا يجوز ان يدخل فيه من غير دليل.
فصل: [في ما خاطب الله عز وجل به الخلق خطاب المواجهة]
وأما ما خاطب الله عز وجل به الخلق خطاب المواجهة كقوله تعالى: ” يا أيها الناس ويا أيها الذين آمنوا ” فإنه لايدخل فيه سائر من لم يخلق من جهة الصيغة واللفظ، لأن هذا الخطاب لايصلح الا لمن هو موجود على الصفة متى ذكرها. فأما من لم يخلق فلا يصلح له هذا الخطاب، وكذلك اذا خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بخطاب لم يدخل غيره فيه من جهة اللفظ لان الذى خاطبه به لايتناول غيره، وانما يدخل الغير فى حكم ذلك الخطاب بدليل وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ” حكمى على الواحدحكمى على الجماعة ” والقياس وهو ان يوجد المعنى الذى حكم به فيمن حكم عليه فى غيره فيقاس عليه.
فصل: [في ورود الخطاب بلفظ العموم]
اذا ورد الخطاب بلفظ العموم دخل فيه كل من صلح له الخطاب، ولايسقط ذلك الفعل عن بعضهم بفعل البعض الا فيما ورد الشرع به وقرره أنه فرض كفاية كالجهاد وتكفين الميت والصلاة عليه ودفنه فإنه اذا قام به من يقع به الكفاية سقط عن الباقين.
باب بيان الفرض والواجب والسنة والندب
والواجب والفرض والمكتوبة واحد، وهو ما يتعلق العقاب بتركه. وقال أصحاب أبى حنيفة الواجب ما ثبت وجوبه بدليل مجتهد فيه كالوتر والأضحية عندهم، والفرض ماثبت وجوبه بدليل مقطوع به كالصلوات الخمس والزكوات المفروضة وما أشبهها. وهذا خطأ لأن طريق الأسماء الشرع واللغة والإستعمال، وليس فى شيء من ذلك فرق بين ما ثبت بدليل مقطوع به أو بطريق مجتهد فيه.
وأما السنة فما رسم ليحتذى به على سبيل الإستحباب , وهى والنفل والندب بمعنى واحد. ومن الناس من قال السنة ماترتب كالسنن الراتبة مع الفرائض، والنفل والندب ما زاد على ذلك. وهذا لايصح لأن كل ما ورد الشرع باستحبابه فهو سنة سواء كان راتبا أو غير راتب، فلا معنى لهذا الفرق.
اذا قال الصحابى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وجب قبوله ويصير كما لو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت بكذا، وقال داود لايقبل حتى ينقل لفظه. والدليل على ما قلناه هو ان الراوى مصدق فيما يرويه وهو عارف بالأمر والنهى لأنه لغته فوجب ان يقبل كسائر ما يرويه.
فصل: [في حمل السنة على سنة النبي]
وكذلك إن قال من السنة كذا حمل على سنة النبى صلى الله عليه وسلم، وأما اذا قال أمر فلان بكذا أو أمرنا أو نهينا ولم يسم الآمر حمل ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال أصحاب أبى حنيفة لا يحمل على ذلك الا بدليل، وهو قول أبى بكر الصيرفى. وهذا غير صحيح لأن الذى يحتج بأمره ونهيه وسنته هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا أطلق الصحابى ذلك وجب ان يحمل عليه.
النهى يقارب الأمر فى أكثر ماذكرناه، الا أنى أشير اليه على جهة الاختصار وأبين ما يخالف الأمر فيه ان شاء الله تعالى وبه الثقة. فأما حقيقته فهو القول الذى يستدعى به ترك الفعل ممن هو دونه. ومن أصحابنا من زاد على سبيل الوجوب كما ذكرناه فى الأمر.
وله صيغة تدل عليه فى اللغة، وهوقوله” لا تفعل”. وقالت الأشعرية ليس له صيغة، وقد مضى الدليل عليه فى الأمر.
فصل: [في تجرد صيغة النهي]
واذا تجردت صيغته اقتضت التحريم. وقالت الأشعرية لاتقتضى التحريم ولاغيره الا بدليل. والدليل على ماقلناه ان السيد من العرب اذا قال لعبده ” لاتفعل كذا ” ففعل استحق الذم والتوبيخ، فدل على انه يقتضى التحريم.
فصل ثان: [في تجرد صيغة النهي]
واذا تجردت صيغته اقتضت الترك على الدوام وعلى الفور، بخلاف الأمر. وذلك ان الأمر يقتضى ايجاد الفعل فاذا فعل مرة فى أى زمان فعل سمى ممتثلا، وفى النهى لايسمى منتهيا الا اذا سارع الى الترك على الدوام.
واذا نهى عن شيء فإن كان له ضد واحد فهو امر بذلك الضد كالصوم فى العيدين، وان كان له أضداد كالزنا فهو أمر بضد من أضداده، لأنه لايتوصل الى ترك المنهى عنه الا بما ذكرناه.
فصل: [في نظير المنهي عنه]
واذا نهى عن أحد شيئين كان ذلك نهيا عن الجمع بينهما، ويجوز له فعل أحدهما. وقالت المعتزلة يكون ذلك نهيا عنهما، فلا يجوز فعل واحد منهما. والدليل على ما قلناه هو ان النهى أمر بالترك كما ان الأمر أمر بالفعل، ثم الأمر بفعل احدهما لايقتضى وجوبهما، فكذلك الأمر بترك أحدهما لايقتضى وجوب تركهما.
فصل: [في فساد المنهى عنه]
والنهى يدل على فساد المنهى عنه فى قول أكثر أصحابنا كما يدل الأمر على إجزاء المأمور به. ثم اختلف هؤلاء: فمنهم من قال يقتضى الفساد من جهة الوضع فى اللغة. ومنهم من قال يقتضى الفساد من جهة الشرع. ومن أصحابنا من قال النهى لايدل على الفساد، وحكى عن الشافعى رحمه الله مايدل عليه، وهو قول طائفة من أصحاب أبى حنيفة وأكثر المتكلمين. واختلف القائلون بذلك فى الفصل بين ما يفسد وبين ما لا يفسد. فقال بعضهم إن كان فى فعل المنهى إخلال بشرط فى صحته إن كان عبادة أو فى نفوذه إن كان عقدا وجب القضاء بفساده. وقال بعضهم إن كان النهى يختص بالفعل المنهى عنه كالصلاة فى المكان النجس اقتضى الفساد، و إن لم يختص المنهى عنه كالصلاة فى الدار المغصوبة لم يقتض الفساد. والدليل على أن النهى يقتضى الفساد على الإطلاق إنه اذا أمر بعبادة مجردة عن النهى ففعل على وجه منهى عنه فإنه لم يأت بالمأمور على الوجه الذى اقتضاه الأمر فوجب أن تبقى العبادة عليه كما كانت.
باب ذكر حقيقة العموم وبيان مقتضاه
والعموم كل لفظ عم شيئين فصاعدا، وقد يكون متناولا لشيئين كقولك عممت زيدا وعمرا بالعطاء، وقد يتناول جميع الجنس كقولك عممت الناس بالعطاء. و أقله مايتناول شيئين , وأكثره ما إستغرق الجنس.
فصلوألفاظه أربعة أنواع: أحدها اسم الجمع اذا عرف بالألف واللام كالمسلمين والمشركين والأبرار والفجار وما أشبه ذلك، وأما المنكر منه كقولك مسلمون ومشركون و أبرار وفجار فلا يقتضى العموم. ومن أصحابنا من قال هو للعموم، وهو قول أبى على الجبائى. والدليل على فساد ذلك أنه نكرة فلم يقتض الجنس كقولك رجل ومسلم.
والثانى اسم الجنس اذا عرف بالألف واللام كقولك الرجل والمسلم. ومن أصحابنا من قال هو للعهد دون الجنس. والدليل على أنه للجنس قوله عز وجل ”والعصر ان الإنسان لفى خسر ” والمراد به الجنس، ألا ترى انه إستثنى منه الجمع فقال ” إلا الذين آمنوا ” وتقول العرب ” أهلك الناس الدينار والدرهم ” و يريدون الجنس.
فصل: [في الأسماء المبهمة]
والثالث الأسماء المبهمة، وذلك من فيمن يعقل وما فيما لايعقل فى الإستفهام والشرط والجزاء، تقول فى الإستفهام ” من عندك وما عندك ”، وفى الجزاء تقول ”من أكرمنى أكرمته ومن جاءنى رفعته ”، وأى فيما يعقل وفيما لايعقل فى الاستفهام وفى الشرط والجزاء، تقول فى الاستفهام ” أى شيء عندك ”، وفى الشرط والجزاء ” أى رجل أكرمنى أكرمته ”، وأين وحيث فى المكان، ومتى فى الزمان تقول ” إذهب اين شئت وحيث شئت واطلبنى متى شئت ”.
والرابع النفى فى النكرات تقول ” ماعندى شيء ” و” لارجل فى الدار ”.
أقل الجمع ثلاثة، فإذا ورد لفظ الجمع كقوله مسلمون ورجال حمل على ثلاثة. ومن أصحابنا من قال هو إثنان، وهو قول مالك وابن داود ونفطويه وطائفة من المتكلمين. والدليل على ماقلناه ان ابن عباس رضى الله عنهما احتج على عثمان رضى الله عنه فى حجب الأم بالإخوين وقال ليس الإخوان إخوة فى لسان قومك، فقال عثمان لا أستطيع ان انقض أمرا كان قبلى وتوارثه الناس ومضى فىالأمصار فادعى ابن عباس ان الإخوين ليس بإخوة، فأقره عثمان كرم الله وجهه على ذلك، وإنما اعتذر عنه بالإجماع، ولإنهم فرقوا بين الواحد والإثنين والجمع فقالوا رجل ورجلان ورجال، فلو كان الإثنان جمعا كالثلاثة لما خالفوا بينهما فى اللفظ.
اذا تجردت ألفاظ العموم التى ذكرناها اقتضت العموم واستغراق الجنس والطبقة. وقالت الأشعرية ليس للعموم صيغة موضوعة، وهذه الألفاظ تحتمل العموم والخصوص، فإذا وردت وجب التوقف فيها حتى يدل الدليل على مايراد بها من الخصوص والعموم. ومن الناس من قال لاتحمل على العموم فى الأخبار، وتحمل فى الأمر والنهى. ومن الناس من قال تحمل على أقل الجمع ويتوقف فيما زاد. والدليل على ما ذكرناه ان العرب فرقت بين الواحد والإثنين والثلاثة فقالوا رجل ورجلان ورجال كما فرقت بين الأعيان فى الأسماء فقالوا رجل وفرس وحمار، فلو كان احتمال لفظ الجمع للواحد والإثنين كاحتماله لما زاد لم يكن لهذا التفريق معنى، ولأن العموم مما تدعو الحاجة الى العبارة عنه فى مخاطباتهم، فلا بد ان يكونوا قد وضعوا له لفظا يدل عليه كما وضعوا لكل ما يحتاجون اليه من الأعيان. فأما من قال انه يحمل على الثلاث ويتوقف فيما زاد فالدليل عليه ان تناول اللفظ للثلاث ولما زاد عليه واحد، فإذا وجب الحمل على الثلاث وجب الحمل على ما زاد.
ولافرق فى ألفاظ العموم بين ما قصد بها المدح أو الذم أو قصد بها الحكم فى الحمل على العموم. ومن أصحابنا من قال إن قصد بها المدح كقوله عز وجل ”والذين هم لفروجهم حافظون ” والذم كقوله تعالى ” والذين يكنزون الذهب والفضة ”لم يحمل على العموم، وهذا خطأ لأن ذكر المدح والذم يؤكد فى الحث عليه والزجر عنه فلا يجوز ان يكون مانعا من العموم.
فصل ثان: [في ألفاظ العموم]
واذا وردت ألفاظ العموم فهل يجب اعتقاد عمومها والعمل بموجبها قبل البحث عما يخصها؟ اختلف أصحابنا فيه، فقال أبو بكر الصيرفى يجب العمل بموجبها واعتقاد عمومها مالم بعلم مايخصها، وذهب عامة أصحابنا أبو العباس وأبو سعيد الإصطخرى وأبو إسحق المروزى إلى انه لا يجب اعتقاد عمومها حتى يبحث عن الدلائل، فإذا بحث فلم يجد مايخصها اعتقد حينئذ عمومها، وهو الصحيح، والدليل عليه ان المقتضى للعموم وهو الصيغة المتجردة ولايعلم التجرد الا بعد النظر والبحث فلا يجوز اعتقاد العموم قبله.
باب مايصح دعوى العموم فيه وما لايصح
وجملته ان العموم يصح دعواه فى نطق ظاهر يستغرق الجنس بلفظه كالألفاظ التى ذكرناها فى الباب الأول، وأما الأفعال فلا يصح فيها دعوى العموم لانها تقع على صفة واحدة؛ فاذا عرفت تلك الصفة اختص الحكم بها وإن لم تعرف صار مجملا.فما عرف صفته مثل ماروى ” ان النبى صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين فى السفر” فهذا مقصور على ما روى فيه وهو السفر، ولا يحمل على العموم فيما لم يرد فيه، وما لم يعرف مثل ماروى ” انه جمع بين الصلاتين فى السفر ” فلا يعلم انه كان فى سفر طويل أو سفر قصير إلا انه معلوم انه لم يكن الا فى سفر واحد فاذا لم يعلم ذلك بعينه وجب التوقف فيه حتى يعرف ولايدعى فيه العموم.
فصل: [في القضايا فى الأعيان]
وكذلك القضايا فى الأعيان لايجوز دعوى العموم فيها، وذلك مثل ان يروى ان النبى صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة للجار وقضى فى الإفطار بالكفارة وما أشبه ذلك فلا يجوز دعوى العموم فيها، بل يجب التوقف فيه لأنه يجوز ان يكون قضى بالشفعة لجار لصفة يختص بها وقضى بكفارة بإفطار فى جماع او غيره مما يختص به المحكوم له، وعليه فلا يجوز ان يحكم على غيره الا ان يكون فى الخبر لفظ يدل على العموم.ومن الناس من قال ان كان قد روى انه قضى بكفارة بالافطار وبالشفعة للجار لم يدع فيه العموم وان كان قد روى انه قضى بأن الكفارة فى الإفطار وبأن الشفعة للجار تعلق بعمومه لإن ذلك حكاية قول فكأنه قال الكفارة فى الإفطار والشفعة للجار. وقال بعضهم إن روى انه كان يقضى تعلق بعمومه لأن ذلك للدوام ألا ترى أنه يقال فلان كان يقرى الضيف ويصنع المعروف وقال الله تعالى ”وكان يأمر أهله بالصلاة ” و أراد التكرار. والصحيح انه لا فرق بين ان يكون بلفظ أن أو غيره لأنه قد يروى لفظة ان فى القضاء بمعنى الحكم فى القضية المقضى فيها ولايقتضى الحكم فى غيرها، ولافرق أيضا بين ان يقول كان وبين غيره لأنه وان اقتضى التكرار إلا أنه يجوز ان يكون التكرار على صفة مخصوصة لايشاركها فيه سائر الصفات.
وكذلك المجمل من القول المفتقر الى إضمار، لايدعى فى إضماره العموم، وذلك مثل قوله عز وجل ” الحج أشهر معلومات ” فإنه يفتقر الى إضمار؛ فبعضهم يضمر وقت إحرام الحج أشهر معلومات، وبعضهم يضمر وقت أفعال الحج أشهر معلومات، فالحمل عليهما لايجوز بل يحمل على ما يدل الدليل على انه يراد به لأن العموم من صفات النطق، فلا يجوز دعواه فى المعانى، وعلى هذا من جعل قوله صلى الله عليه وسلم ” لاصلاة لجار المسجد الا فى المسجد ” و” لا نكاح الا بولى ” و” لا أحل المسجد لجنب ولاحائض” و ”رفع القلم عن ثلاثة ” وما أشبهه مجملا منع من دعوى العموم فيه، لأنه يجعل المراد معنى غير مذكور ويجوز ان يريد شيئا دون شيء، فلا يجوز دعوى العموم فيه. ومن الفقهاء من يحمل فى مثل هذا على العموم فى كل ما يحتمله لأنه أعم فائدة. ومنهم من يحمله على الحكم المختلف فيه لأن ما سواه معلوم بالإجماع. وهذا كله خطأ لما بيناه من ان الحمل على الجميع لايجوز وليس هناك لفظ يقتضى العموم، ولايجوز حمله على موضع الخلاف لأن احتماله لموضع الخلاف ولغيره واحد، فلا يجوز تخصيصه لموضع الخلاف..
التخصيص تمييز بعض الجملة بالحكم. ولهذا نقول خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وخص الغير بكذا. وأما تخصيص العموم فهو بيان مالم يرد باللفظ العام.
فصل: [في دخول التخصيص فى ألفاظ]
ويجوز دخول التخصيص فى جميع ألفاظ العموم من الأمر والنهى والخبر. ومن الناس من قال لايجوز التخصيص فى الخبر كما لايجوز النسخ، وهذا خطأ لأنا قد بينا ان التخصيص بيان مالم يرد باللفظ العام وهذا يصح فى الخبر كما يصح فى الأمر والنهى.
فصل: [في بقاء اللفظ العام واحدا]
ويجوز التخصيص الى ان يبقى من اللفظ العام واحد، وقال أبو بكر القفال من أصحابنا يجوز التخصيص فى أسماء الجموع الى ان يبقى ثلاثة ولايجوز أكثر منه. والدليل على جواز ذلك هو انه لفظ من ألفاظ العموم فجاز تخصيصه الى ان يبقى واحد دليله الأسماء المبهمات كمن وما.
واذا خص من العموم شيء لم يصر اللفظ مجازا فيما يبقى وقالت المعتزلة يصير مجازا. وقال الكرخى ان خص بلفظ متصل كالإستثناء والشرط لم يصر مجازا، وان خص بلفظ منفصل صار مجازا. وهو قول القاضى أبى بكر الأشعرى. فالدليل على المعتزلة خاصة هو أن الأصل فى الإستعمال الحقيقة والدليل على من فرق أنا قد وجدنا الأستثناء والشرط فى الإستعمال كغيرهما من أنواع الكلام فدل على ان ذلك حقيقة. والدليل على الجميع ان اللفظ تناول كل واحد من الجنس فإذا خرج بعضه بالدليل بقى الباقى على ما اقتضاه اللفظ وتناوله فكان حقيقة فيه.
باب ذكر مايجوز تخصيصه وما لايحوز
وجملته انه يجوز تخصيص ألفاظ العموم. واما تخصيص ما عرف من فحوى الخطاب كتخصيص ما عرف من قوله عز وجل ” ولاتقل لهما أف ” فلا يجوز لأن التخصيص انما يلحق القول وهذا معنى القول، ولأن تخصيصه نقض للمعنى الذى تعلق المنع به، ألا ترى انه لو قال ولاتقل لهما اف ولكن اضربهما كان ذلك مناقضة فصار كتخصيص القياس.
فصل: [في تخصيص دليل الخطاب]
وأما تخصيص دليل الخطاب فيجوز، لأنه كالنطق فجاز تخصيصه فإذا قال فى سائمة الغنم زكاة فدل على أنه لازكاة فى المعلوفة جاز ان يخص لازكاة فى المعلوفة فيحمل على معلوفة دون معلوفة.
وأما النص فلا يجوز تخصيصه كقوله صلى الله عليه وسلم لأبى بردة يجزئك ولايجزئ أحدا بعدك، لأن التخصيص أن يخرج بعض ما تناوله، وهذا لايصح فى النص على شيء بعينه.
فصل: [في ما قع من الأفعال]
وكذلك ماوقع من الأفعال، لايجوز تخصيصه لما بينا فيما تقدم ان الفعل لايجوز ان يقع على صفتين فيخرج احداهما بدليل، فإن دل الدليل على انه لم يقع الا على صفة من الصفتين لم يكن ذلك تخصيصا.
باب بيان الأدلة التى يجوز التخصيص بها ومالايجوز
والأدلة التى يجوز التخصيص بها ضربان: متصل ومنفصل. فالمتصل هو الإستثناء والشرط والتقييد بالصفة، ولها ابواب تأتى ان شاء الله تعالى وبه الثقة. وأما المنفصل فضربان: من جهة العقل ومن جهة الشرع. فالذى من جهة العقل ضربان: احدهما ما يجوز ورود الشرع بخلافه وذلك مايقتضيه العقل من براءة الذمة فهذا لايجوز التخصيص به، لأن ذلك انما يستدل به لعدم الشرع، فاذا ورد الشرع سقط الاستدلال به وصار الحكم للشرع. والثانى ما لايجوز ورود الشرع بخلافه، وذلك مثل ما دل عليه العقل من نفى الخلق عن صفاته، فيجوز التخصيص به ولهذا خصصنا قوله تعالى ” الله خالق كل شيء ” فى الصفات وقلنا المراد به ما خلا الصفات لأن العقل قد دل على انه لايجوز ان يخلق صفاته، فخصصنا العموم به.
فصل: [في مفهوم الكتاب والسنة]
وأما الذى من جهة الشرع فوجوه: نطق الكتاب والسنة ومفهومهما وأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراره وإجماع الأمة والقياس. فأما الكتاب فيجوز تخصيص الكتاب به كقوله تعالى ” والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ” خص به قوله تعالى ” ولاتنكحوا المشركات حتى يؤمن ”، ويجوز تخصيص السنة به. ومن الناس من قال لايجوز. والدليل على جوازه هو ان الكتاب مقطوع بصحة طريقه والسنة غير مقطوع بطريقها، فإذا جاز تخصيص الكتاب به فتخصيص السنة به أولى.
فصل: [في تخصيص الكتاب بالسنة]
فأما السنة فيجوز تخصيص الكتاب بها، وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم ” لا يرث القاتل ” خص به قوله عز وجل ”يوصيكم الله فى أولادكم ”. وقال بعض المتكلمين لايجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد، وقال عيسى بن أبان إن دخله التخصيص بدليل جاز تخصيصه بخبر الواحد، وإن لم يدخله التخصيص لم يجز. والدليل على جواز ذلك أنهما دليلان أحدهما خاص والآخر عام فقضى بالخاص منهما على العام كما لو كانا من الكتاب. والدليل على من فرق بين أن يكون قد خص بغيره أو لم يخص هو أنه إنما خص به اذا دخله التخصيص لأنه يتناول الحكم بلفظ غير محتمل والعموم يتناوله بلفظ محتمل، وهذا المعنى موجود وإن لم يدخله التخصيص. ويجوز تخصيص السنة بالسنة، وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم ” هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به ” يخص به قوله صلى الله عليه وسلم ” لاتنتفعوا من الميتة بشيء ”. ومن الناس من قال لايجوز من جهة ان السنة جعلت بيانا فلا يجوز أن يفتقر الى بيان. وقال بعض أهل الظاهر يتعارض الخاص والعام، وهو قول القاضى أبى بكر الأشعرى. والدليل على ماقلناه يجيء إن شاء الله تعالى..
وأما المفهوم فضربان: فحوى الخطاب ودليل الخطاب. فأما فحوى الخطاب فهو التنبيه، ويجوز التلخصيص به كقوله تعالى ” فلاتقل لهما أف ولاتنهرهما ” لأن هذا فى قول الشافعى رحمة الله عليه يدل على الحكم بمعناه إلا أنه معنى جلى وعلى قوله يدل على الحكم بلفظه فهو كالنص. وأما دليل الخطاب الذى هو مقتضى النطق فيجوز تخصيص العموم به. وقال أبو العباس بن سريج لايجوز التخصيص به، وهو قول أهل العراق لأن عندهم أنه ليس بدليل، والكلام معهم يجيء ان شاء الله تعالى، وعندنا هو دليل كالنطق فى أحد الوجهين وكالقياس فى الوجه الآخر وأيهما كان جاز التخصيص.
اذا تعارض لفظان فلا يخلو إما ان يكونا خاصين أو عامين أو أحدهما خاصا والآخر عاما أو كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه. فإن كانا خاصين مثل ان يقول لا تقتلوا المرتد واقتلوا المرتد وصلوا مالها سبب عند طلوع الشمس ولاتصلوا ما لاسبب لها عند طلوع الشمس فهذا لايجوز ان يرد إلا فى وقتين ويكون أحدهما ناسخا للآخر؛ فإن عرف التاريخ نسخ الأول بالثانى، وان لم يعرف وجب التوقف. وان كانا عامين مثل ان يقول: من بدل دينه فاقتلوه ومن بدل دينه فلا تقتلوه وصلوا عند طلوع الشمس ولا تصلوا عند طلوع الشمس فهذا ان أمكن إستعمالهما فى حالين أستعملا كما قال صلى الله عليه وسلم ” خير الشهود من شهد قبل أن يستشهد ” وقال ” شر الشهود من شهد قبل أن يستشهد ” فقال أصحابنا الأول محمول عليه اذا شهد وصاحب الحق لايعلم ان له شاهدا فإن الأولى ان يشهد وإن لم يستشهد ليصل المشهود له الى حقه، والثانى محمول عليه اذا علم من له الحق ان له شاهدا فلا يجوز للشاهد ان يبدأ بالشهادة قبل ان يستشهد، وإن لم يمكن استعمالهما وجب التوقف كالقسم الذى قبله. وان كان أحدهما عاما والآخر خاصا مثل قوله تعالى ” حرمت عليكم الميتة ” مع قوله صلى الله عليه وسلم ” أيما إهاب دبغ فقد طهر ” وقوله ” فيما سقت السماء العشر ” مع قوله ” ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة ” فالواجب فى مثل هذا وأمثاله ان يقضى بالخاص على العام. ومن اصحابنا من قال إن كان الخاص متأخرا والعام متقدما نسخ الخاص من العموم بقدره بناء على ان تأخير البيان عن وقت الخطاب لايجوز، وهذا قول المعتزلة. وقال بعض أهل الظاهر يتعارض الخاص والعام، وهو قول أبى بكر الأشعرى. وقال أصحاب أبى حنيفة إن كان الخاص مختلفا فيه والعام مجمعا عليه لم يقض به على العام، وإن كان متفقا عليه قضى به. والدليل على ماذكرناه ان الخاص هو أقوى من العام لأن الخاص يتناول الحكم بلفظ لا احتمال فيه والعام يتناوله بلفظ محتمل فوجب ان يقضى بالخاص عليه. وأما اذا كان كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه يمكن ان يخص بكل واحد منهما عموم الآخر مثل ان يروى ان النبى صلى الله غليه وسلم نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس مع قوله صلى الله عليه وسلم ” من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها اذا ذكرها ” فإنه يحتمل ان يكون المراد بالنهى عن الصلاة عند طلوع الشمس مالاسبب لها من الصلوات بدليل قوله صلى الله عليه وسلم ” من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها اذا ذكرها ” ويحتمل أن يكون المراد بقوله صلى الله عليه وسلم ” من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها ” فى غير حال طلوع الشمس بدليل ما روى ان النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس فالواجب فى مثل هذا أن لايقدم أحدهما على الآخر الا بدليل شرعى من غيرهما يدل على المخصوص منهما أو ترجيح يثبت لأحدهما على الآخر كما روى عن عثمان وعلى رضى الله عنهما فى الجمع بين الأختين بملك اليمين أحلتهما آية وحرمتهما آية والتحريم أولى. وهل يجوز ان يخلو مثل هذا من الترجيح؟ من الناس من قال لايجوز، ومنهم من قال يجوز واذا خلا تعارضا وسقطا ورجع المجتهد إلى براءة الذمة.
فصل: [في ]
وأما أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجوز التخصيص بها، وذلك مثل ان يحرم أشياء بلفظ عام ثم يفعل بعضها فيخص بذلك العام. ومن الناس من قال لايجوز التخصيص بها، وهو قول بعض أصحابنا لأنه يجوز ان يكون مخصوصا به. والأول أصح لأته و إن جاز ان يكون مخصوصا الا أن الأصل مشاركة الأمة فى الأحكام، ولهذا قال الله تعالى ” لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة ”.
وأما الإقرار فيجوز التخصيص به كما رأى قيسا يصلى ركعتى الفجر بعد الصبح فأقره عليه فيخص به نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد الصبح لانه لايجوز ان يرى منكرا فيقر عليه، فلما أقره دل على جوازه.
وأما الإجماع فيجوز التخصيص به لأنه أقوى من الظواهر فاذا جاز التخصيص بالظواهر فبالإجماع أولى.
وأما قول الواحد من الصحابة اذا انتشر ولم يعرف له مخالف فهو حجة يجوز التخصيص به، وإن لم ينشر فإن كان له مخالف لم يجز التخصيص به وإن لم يكن له مخالف فهل يجوز التخصيص به؟ يبنى على القولين فى أنه حجة أم لا؛ فإذا قلنا ليس بحجة لم يجز التخصيص به، واذا قلنا إنه حجة فهل يجوز التخضيض به؟ فيه وجهان أحدهما يجوز والثانى لايجوز.
وأما القياس فيجوز التخصيص به ومن أصحابنا من قال لايجوز التخصيص به، وهو قول أبى على الجبائى واختيار القاضى أبى بكر الأشعرى، وقال عيسى بن أبان اذا ثبت تخصيصه بدليل يوجب العلم جاز التخصيص به وان لم يثبت تخصيصه بدليل يوجب العلم لم يجز. وقال بعض أهل العراق ان دخله التخصيص بدليل غير القياس جاز التخصيص به وان لم يدخله التخصيص بغيره لم يجز. والدليل على جواز ذلك ان القياس يتناول الحكم فيما يخصه بلفظ غير محتمل فخص به العموم كاللفظ الخاص.
وأما قول الراوى فلا يجوز تخصيص العموم به وقال أصحاب ابى حنيفة رحمه الله يجوز. والدليل على انه لا يجوز هو ان تخصيصه يجوز ان يكون بدليل ويجوز ان يكون بشبهة فلا يترك الظاهر بالشك وكذلك لايجوز ترك شيء من الظواهر بقوله مثل ان يحتمل الخبر أمرين وهو فى أحدهما أظهر فيصرفه الراوى الى الآخر فلا يقبل ذلك منه لما بيناه فى تخصيص العموم. وأما اذا احتمل اللفظ أمرين احتمالا واحدا فصرفه الى أحدهما مثل ما روى عن عمر كرم الله وجهه انه حمل قوله صلى الله عليه وسلم ” الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء ” على القبض فى المجلس فقد قيل انه يقبل ذلك لأنه أعرف بمعنى الخطاب، وقال الشيخ الإمام رحمه الله وفيه نظر عندى.
وأما العرف والعادة فلا يجوز تخصيص العموم به لأن الشرع لم يوضع على العادة، وانما وضع فى قول بعض الناس على حسب المصلحة، وفى قول الباقين على ما أراد الله تعالى وذلك لايقف على العادة.
فصل: [في تخصيص أول الآية بآخرها وبالعكس]
وأما تخصيص أول الآية بآخرها وآخرها بأولها فلايجوز ذلك مثل قوله تعالى ”والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ” وهذا عام فى الرجعية وغيرها ثم قال فى آخر الآية ” وبعولتهن أحق بردهن ” وهذا خاص بالرجعيات فيحمل أول الآية على العموم وآخرها على الخصوص ولايخص أولها بآخرها لجواز ان يكون قصد بآخر الآية بيان بعض ما اشتمل عليه أول الآية فلايحوز ترك العموم بأولها.
باب القول فى اللفظ الوارد على سبب
وجملته ان اللفظ الوارد على سبب لم يجز ان يخرج السبب منه لأنه يؤدى الى تأخير البيان عن وقت الحاجة وذلك لايجوز، وهل يدخل فيه غيره؟ نظرت فإن كان اللفظ لايستقل بنفسه كان ذلك مقصورا على ما ورد فيه من السبب ويصير الحكم مع السبب كالجملة الواحدة فإن كان لفظ السائل عاما مثل ان قال أفطرت فقال أعتق حمل الجواب على العموم فى كل مفطر كأنه قال من أفطر فعليه العتق من جهة المعنى لا من جهة اللفظ، وذلك انه لما لم يستفصل دل على انه لايختلف أو لما نقل نقل السبب وهو الفطر فحكم فيه بالعتق صار كأنه علل بذلك لأن ذكر السبب فى الحكم تعليل، وإن كان خاصا مثل ان قال جامعت فقال اعتق حمل الجواب على الخصوص فى المجامع لايتعدى الى غيره من المفطرين فكأنه قال من جامع فى رمضان فعليه العتق، وأما اذا كان اللفظ يستقل بنفسه أعتبر حكم اللفظ؛ فإن كان خاصا حمل على خصوصه، وان كان عاما حمل على عمومه ولايخص بالسبب الذى ورد فيه وذلك مثل ماسئل النبى صلى الله عليه وسلم عن بئر بضاعة فقيل إنك تتوضأ من بئر بضاعة وإنه يطرح فيها المحائض ولحوم الكلاب وماينحى الناس فقال صلى الله عليه وسلم ” الماء طهور لاينجسه شيء ” فهذا يحمل على عمومه ولايخص بما ورد فيه من السبب، وقال المزنى و أبو ثور وأبو بكر الدقاق من أصحابنا يقصر على ما ورد فيه من السبب. والدليل على ماقلناه هو ان الحجة فى قول الرسول صلى الله عليه وسلم دون السبب فوجب ان يعتبر عمومه.
والإستثناء يجوز تخصيص اللفظ به. وهو مأخوذ من قولهم ثنيت فلانا عن رأيه اذا صرفته عنه. وقيل انه مأخوذ من تثنية الخبر بعد الخبر. ومن شرطه ان يكون متصلا بالمستثنى منه، وحكى عن ابن عباس رضى الله عنهما جواز تأخيره، وحكى عن قوم جواز تأخيره اذا أورد معه كلام يدل على ان ذلك إستثناء مما تقدم وهو ان يقول جاءنى الناس ثم يقول بعد زمان الا زيدا وهو استثناء مما كنت قلت، فأما المحكى عن ابن عباس رضى الله عنهما فالظاهر انه لايصح عنه وهو بعيد لأنهم لا يستعملون الإستثناء الا متصلا بالكلام، ألا ترى أنه اذا قال جاءنى الناس ثم قال بعد شهر الا زيدا لم يعد ذلك كلاما فدل على بطلانه، وما حكى عن غيره خطأ لأنه لو جاز ذلك على الوجه الذى قاله لجاز ان يؤخر خبر المبتدأ ثم يخبر به مع كلام يدل عليه بأن يقول زيد ثم يقول بعد حين قائم ويقرنه بما يدل على انه خبر عنه وهذا مما لا يقوله احد ولايعد كلاما فى اللغة فبطل.
فصل: [في يتقدم الاستثناء على المستثنى]
ويجوز ان يتقدم الإستثناء على المستثنى منه كما يجوز ان يتأخر كقول الكميت: فمالى الا آل احمد شيعة. وقال الشاعر:.
وقفت فيها أصلا لا أسائلها *** والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد.
فصل: [في استثناء الأكثر من الجملة]
ويجوز ان يستثنى الأكثر من الجملة. وقال أحمد لا يجوز، وهو قول القاضى أبى بكر الأشعرى وابن درستويه. والدليل على جوازه ان القرآن ورد به قال الله تعالى ”ان عبادى ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين ” ثم قال ” فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ” فاستثنى الغاوين من العباد واستثنى العباد من الغاوين وأيهما كان أكثر فقد استثناه من الآخر ولأن الإستثناء معنى يوجب تخصيص اللفظ العام فجاز فى القليل والكثير كالتخصيص بالدليل المنفصل.
فصل: [في تعقب الاستثناء]
اذا تعقب الإستثناء جملا عطف بعضها على بعض جمع ذلك الى الجميع،وذلك مثل قوله عز وجل ”والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولاتقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون الا الذين تابوا ”، وقال أصحاب أبى حنيفة رحمه الله يرجع الى ما يليه، وقال القاضى أبو بكر يتوقف فيه ولايرد الى شيء منهما الا بدليل. والدليل على ماقلناه هو ان الإستثناء كالشرط فى التخصيص ثم الشرط يرجع الى الجميع وهو اذا قال إمرأتى طالق وعبدى حر ومالى صدقة إن شاء الله تعالى فكذلك الإستثناء.
فصل: [في رجوع الاستثناء إلى جملة]
وإن دل الدليل على أنه لا يجوز رجوعه الى جملة من الجمل المذكورة كما فى آية القذف؛ فإن الدليل دل على أنه لايجوز ان يرجع الإستثناء فيها الى الحد رجع الى مابقى من الجمل، وكذا ان تعقب الإستثناء جملة واحدة ودل الدليل على انه لايجوز رجوعه الى بعضها كقوله عز وجل ” وان طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة ” الى قوله تعالى ” الا ان يعفون ” فإنه قد دل الدليل على ان الإستثناء لايجوز رجوعه الى الصغار والمجانين رجع الى مابقى من الجملة لأن ترك الظاهر فيما قام عليه الدليل لايوجب تركه فيما لم يقم عليه الدليل.
واعلم ان الشرط مالايصح المشروط الا به.وقد ثبت ذلك بدليل منفصل، كاشتراط القدرة فى العبادات واشتراط الطهارة فى الصلاة، وقد دخل ذلك فيما ذكرناه من تخصيص العموم. وقد يكون متصلا بالكلام، وذلك قد يكون بلفظ الشرط كقوله تعالى ”فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ”، وقد يكون بلفظ الغاية كقوله تعالى ”حتى يعطوا الجزية عن يد ”. ويجوز تخصيص الحكم بالجميع، فيكون الصيام لمن لم يجد الرقبة والقتل فيمن لم يؤد الجزية.
يجوز ان يتقدم الشرط فى اللفظ ويجوز ان يتأخر كما يجوز فى الاستثناء. ولهذا لم يفرق بين قوله أنت طالق إن دخلت الدار وبين قوله إن دخلت الدار فأنت طالق.
فصل: [في تعقب الشرط جملا]
واذا تعقب الشرط جملا رجع الى جميعها كما قلنا فى الإستثناء. ولهذا اذا قال إمرأتى طالق وعبدى حر إن شاء الله لم تطلق المرأة ولم يعتق العبد.
فصل: [في دخل الشرط فى بعض الجمل دون بعض]
فأما اذا دخل الشرط فى بعض الجمل المذكورة دون بعض لم يرجع الشرط الا الى المذكورة، وذلك مثل قوله تعالى ” أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ” الى قوله تعالى ”وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن ”، فشرط الحمل فى الإنفاق دون السكن، فيرجع الشرط الى الإنفاق ولايرجع الى السكن، وهكذا لو ثبت الشرط بدليل منفصل فى بعض الجمل لم يجب إثباته فيما عداه كقوله عز وجل ” والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ” الى قوله ” وبعولتهن أحق بردهن ”. فإن الدليل قد دل على ان الرد فى الرجعيات، فيرجع ذلك الى الرجعيات ولايوجب ذلك تخصيص أول الآية، وهكذا اذا ذكر جملا وعطف بعضها على بعض لم يقتض الوجوب فى الجميع أو يقتضى العموم فى الجميع ثم دل الدليل على ان فى بعضها لم يرد الوجوب أو فى بعضها ليس على العموم لم يجب حمله فى الباقى على غير الوجوب ولا على غير العموم، وذلك مثل قوله تعالى ” كلوا من ثمره اذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ” فأمر بالأكل وإيتاء الحق والأكل لايجب والإيتاء واجب والأكل عام فى القليل والكثير والإيتاء خاص فى خمسة أوسق فما قام الدليل عليه خرج من اللفظ وبقى الباقى على ظاهره.
فصل: [في ثبوت اللفظ لأحد شيئين]
وهكذا كل شيئين قرن بينهما فى اللفظ ثم ثبت لأحدهما حكم بالإجماع لم يجب أن يثبت ذلك الحكم للآخر من غير لفظ يوجب التسوية بينهما أو علة توجب الجمع بينهما. ومن أصحابنا من قال اذا ثبت لأحدهما حكم ثبت لقرينه مثله، وهذا غير صحيح لأن الحكم الذى ثبت لأحدهما ثبت بدليل يخصه من لفظ أو إجماع وذلك غير موجود فى الآخر، فلا تجب التسوية بينهما الا بعلة تجمع بينهما..
واعلم ان تقييد العام بالصفة يوجب التخصيص كما يوجب الشرط والإستثناء وذلك كقوله تعالى ” فتحرير رقبة مؤمنة ” فإنه لو أطلق الرقبة لعم المؤمنة والكافرة، فلما قيده بالمؤمنة وجب التخصيص.
فصل: [في ورد الخطاب مطلقا فى موضع لامقيد له]
فإن ورد الخطاب مطلقا فى موضع لامقيد له حمل على إطلاقه، وإن ورد مقيدا لامطلق له حمل على تقييده، وإن ورد مطلقا فى موضع ومقيدا فى موضع آخر نظرت؛ فإن كان ذلك فى حكمين مختلفين مثل ان يقيد الصيام بالتتابع ويطلق الإطعام لم يحمل أحدهما على الآخر بل يعتبر كل واحد منهما بنفسه لأنهما لايشتركان فى لفظ ولا معنى، وإن كان ذلك فى حكم واحد وسبب واحد مثل ان يذكر الرقبة فى كفارة القتل مقيدة بالإيمان ثم يعيدها فى القتل مطلقة كان الحكم للمقيد لأن ذلك حكم واحد استوفى بيانه فى أحد الموضعين ولم يستوف فى الموضع الآخر، وان كان فى حكم واحد وسببين مختلفين نظرت فى المقيد؛ فإن عارضه مقيد آخر لم يحمل المطلق على واحد من المقيدين وذلك مثل الصوم فى الظهار قيده بالتتابع وفى التمتع قيده بالتفريق وأطلق فى كفارة اليمين فلا يحمل المطلق فى اليمين على الظهار ولا على التمتع، بل يعتبر بنفسه اذ ليس حمله على أحدهما بأولى من الحمل على الآخر، وإن لم يعارض المقيد مقيد آخر كالرقبة فى كفارة القتل والرقبة فى الظهار قيدت بالإيمان فى القتل وأطلقت فى الظهار حمل المطلق على المقيد فمن أصحابنا من قال يحمل من جهة اللغة لأن القرآن من فاتحته إلى خاتمته كالكلمة الواحدة، ومنهم من قال يحمل من جهة القياس وهو الأصح. وقال أصحاب أبى حنيفة رحمه الله لا يجوز حمل المطلق على المقيد لأن ذلك زيادة فى النص وذلك نسخ بالقياس، وربما قالوا لأنه حمل منصوص. والدليل على انه لايحمل من جهة اللغة ان اللفظ الذى ورد فيه التقييد وهو القتل لايتناول المطلق وهو الظهار فلايجوز أن يحكم فيه بحكمه من غير علة فكذلك ههنا. والدليل على انه يحمل عليه بالقياس هو ان حمل المطلق على المقيد تخصيص عموم بالقياس فصار كتخصيص سائر العمومات.
اعلم ان مفهوم الخطاب على أوجه: أحدها فحوى الخطاب، وهو مادل عليه اللفظ من جهة التنبيه كقوله عز وجل ” فلاتقل لهما أف ” وقوله تعالى ” ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ” وما أشبه ذلك مما ينص فيه على الأدنى لينبه به على الأعلى وعلى الأعلى لينبه به على الأدنى، وهل يعلم مادل عليه التنبيه من جهة اللفظ أو من جهة القياس؟ فيه وجهان: أحدهما أنه من جهة اللغة، وهو قول أكثر المتكلمين وأهل الظاهر. ومنهم من قال هو من جهة القياس الجلى، ويحكى ذلك عن الشافعى، وهو الأصح لأن لفظ التأفيف لايتناول الضرب وانما يدل عليه بمعناه وهو الأدنى فدل على أنه قياس.
والثانى لحن الخطاب وهو مادل عليه اللفظ من الضمير الذى لايتم الكلام إلا به، وذلك مثل قوله عز وجل ” فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت ” ومعناه فضرب فانفجرت. ومن ذلك أيضا حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه كقوله عز وجل ” واسأل القرية ” ومعناه أهل القرية، ولاخلاف ان هذا كالمنطوق به فى الإفادة والبيان، ولايجوز ان يضمر فى مثل هذا إلا ماتدعو الحاجة إليه، فإن استقل الكلام بإضمار واحد لم يجز ان يضاف اليه غيره الا بدليل، فإن تعارض فيه إضماران أضمر مادل عليه الدليل منهما. وقد حكينا فى مثل هذا الخلاف عمن يقول إنه أضمر فيه ما هو أعم فائدة أو موضع الخلاف وبينا فساد ذلك.
والثالث دليل الخطاب وهو أن يعلق الخكم على إحدى صفتي الشيء فيدل على أن ماعداها بخلافه، كقوله تعالى ” إن جاءكم فاسق بنباء فتبينوا ” فيدل على أنه إن جاء عدل لم يتبين، وكقوله صلى الله عليه وسلم ” فى سائمة الغنم زكاة ” فيدل على أن المعلوفة لا زكاة فيها. وقال عامة أصحاب أبى حنيفة رحمه الله و أكثر المتكلمين لايدل على أن ماعداه بحلافه بل حكم ما عداه موقوف على الدليل. وقال أبو العباس بن سريج إن كان بلفظ الشرط كقوله تعالى ” إن جاءكم فاسق بنباء فتبينوا ” دل على أن ما عداه بخلافه وإن لم يكن بلفظ الشرط لم يدل، وهو قول بعض أصحاب أبى حنيفة رحمه الله. والدليل على ماقلناه ان الصحابة اختلفت فى إيجاب الغسل من الجماع من غير إنزال؛ فقال بعضهم لايجب واحتجوا بدليل الخطاب فى قول النبى صلى الله عليه وسلم ” الماء من الماء ” وأنه لما أوجب من الماء دل على أنه لا يجب من غير ماء ومن أوجب ذكر أن ” الماء من الماء ” منسوخ فدل على ما ذكرناه ولأن تقييد الحكم بالصفة يوجب تخصيص الخطاب فاقتضى بإطلاقه النفى والإثبات كالإستثناء.
فصل: [في تعلق الحكم بغاية]
وأما اذا علق الحكم بغاية فإنه يدل على أن ماعداها بخلافها، وبه قال أكثر من أنكر القول بدليل الخطاب. ومنهم من قال لايدل والدليل على ماقلناه هو أنه لوجاز أن يكون حكم ما بعد الغاية موافقا لما قبلها خرج عن أن يكون غاية وهذا لايجوز.
فصل: [في تعلق الحكم على صفة بلفظ إنما]
وأما اذا علق الحكم على صفة بلفظ إنما كقوله صلى الله عليه وسلم ” إنما الأعمال بالنيات ” وقوله صلى الله عليه وسلم ” إنما الولاء لمن أعتق ” دل أيضا على أن ما عداها بخلافها، وبه قال كثير ممن لم يقل بدليل الخطاب. وقال بعضهم لايدل على أن ماعداها بخلافها. وهذا خطأ لأن هذه اللفظة لاتستعمل إلا لإثبات المنطوق به ونفى ماعداه، ألا ترى أنه لا فرق بين أن يقول إنما فى الدار زيد وبين أن يقول ليس فى الدار إلا زيد وبين أن يقول إنما الله واحد وبين أن يقول لا إله إلا واحد، فدل على أنه يتضمن النفى والإثبات.
فصل: [في تعلق الحكم على صفة فى جنس]
فأما اذا علق الحكم على صفة فى جنس كقوله صلى الله عليه وسلم ” فى سائمة الغنم زكاة ” دل ذلك على نفى الزكاة عن معلوفة الغنم دون ماعداها. ومن أصحابنا من قال يدل على نفيها عما عداها فى جميع الأجناس. وهذا خطأ لأن الدليل يقتضى النطق فإذا اقتضى النطق الإيجاب فى سائمة الغنم وجب ان يقتضى الدليل نفيها عن معلوفة الغنم.
فصل: [في تعلق الحكم على مجرد الاسم]
فإذا علق الحكم على مجرد الإسم مثل أن يقول فى الغنم زكاة فإن ذلك لايدل على نفى الزكاة عما عدا الغنم. ومن أصحابنا من قال يدل كالصفة. والمذهب الأول لأنه يخص الإسم بالذكر وهو وغيره سواء، ألا ترى أنهم يقولون ” إشتر غنما و إبلا وبقرا ” فينص على كل واحد منها مع إرادة جميعها ولايضم الصفة إلى الإسم وهى وغيرها سواء، ألا ترى أنهم لايقولون ” إشتر غنما سائمة ” وهى والمعلوفة سواء فافترقا.
فصل: [في: إذا أدى القول بالدليل إلى إسقاط الخطاب]
اذا أدى القول بالدليل إلى إسقاط الخطاب سقط الدليل وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم ” لاتبع ماليس عندك ” فإن دليله يقتضى جواز بيع ما هو عنده وان كان غائبا عن العين، واذا أجزنا ذلك لزمنا ان نجيز بيع ماليس عنده لأن أحدا لم يفرق بينهما، واذا أجزنا ذلك سقط الخطاب وهو قوله صلى الله عليه وسلم ” لاتبع ماليس عندك ” فيسقط الدليل ويبقى الخطاب لأن الدليل فرع الخطاب ولايجوز أن يعترض الفرع على الأصل بالإسقاط.
فأما المبين فهو ما استقل بنفسه فى الكشف عن المراد ولايفتقر فى معرفة المراد إلى غيره. وذلك على ضربين: ضرب يفيد بنطقه وضرب يفيد بمفهومه. فالذى يفيد بنطقه هو النص والظاهر والعموم. فالنص كل لفظ دل على الحكم بصريحه على وجه لا احتمال فيه، وذلك مثل قوله عز وجل ” محمد رسول الله ” وكقوله تعالى ” ولاتقربوا الزنا ” ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق ” وكقوله صلى الله عليه وسلم ” فى كل خمس شاة فى أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم” وغيرذلك من الألفاظ الصريحة فى بيان الأحكام.
وأما الظاهر فهو كل لفظ احتمل أمرين وفى أحدهما أظهر كالأمر والنهى وغيرذلك من أنواع الخطاب الموضوعة للمعانى المخصوصة المحتملة لغيرها.
والعموم كل لفظ عم شيئين فصاعدا كقوله تعالى ” اقتلوا المشركين ” وقوله تعالى ”والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما” وغير ذلك، فهذه كلها من المبين الذى لايفتقر فى معرفة المراد إلىغيره وإنما يفتقر إلى غيره فى معرفة ماليس بمراد به فيصح الإحتجاج بهذه الأنواع. وقال أبو ثور وعيسى بن أبان العموم اذا دخله التخصيص صار مجملا لا يحتج بظاهره وقال أبو الحسن الكرخى إن خص بدليل متصل لم يصر مجملا وإن خص بدليل منفصل صار مجملا. وقال أبو عبد الله البصرى إن كان حكمه يفتقر إلى شروط كآية السرقة فهى مجملة لايحتج بها إلا بدليل، وإن لم يفتقر إلى شروط لم يصر مجملا. والدليل على ما قلناه هو أن المجمل مالايعقل معناه من لفظه ويفتقر فى معرفة المراد إلى غيره وهذه الآيات يعقل معناها من لفظها ولايفتقر فى معرفة المراد بها إلى غيرها فهى كغيرها من الآيات.
[ قوله والعموم كل الخ] أى لغة وأما اصطلاحا فهو شمول الخ كما مر.
وأما مايفيد بمفهومه فهو فحوى الخطاب ولحن الخطاب ودليل الخطاب، وقد بينتها قبل هذا الباب فأغنى عن الإعادة.
وأما المجمل فهو ما لايعقل معناه من لفظه ويفتقر فى معرفة المراد إلى غيره وذلك على وجوه: منها أن يكون اللفظ لم يوضع للدلالة على شيء بعينه كقوله تعالى ” وآتوا حقه يوم حصاده ” وكقوله صلى الله عليه وسلم ” أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولو لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها ” فإن الحق مجهول الجنس والقدر فيفتقر إلى البيان.
فصل: [في اللفظ فى الوضع يشترك بين شيئين]
ومنها أن يكون اللفظ فى الوضع مشتركا بين شيئين كالقرء يقع على الحيض ويقع على الطهر فيفتقر الى البيان.
فصل ثان: [في اللفظ فى الوضع يشترك بين شيئين]
ومنها أن يكون اللفظ موضوعا لجملة معلومة إلا أنه دخلها إستثناء مجهول كقوله عز وجل ” أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد ” فإنه قد صار مجملا بما دخله من الإستثناء، ومن هذا المعنى العموم إذا علم أنه مخصوص ولم يعلم ماخص منه، فهذا أيضا مجمل لأنه لايمكن العمل به قبل معرفة ما خص منه.
فصل ثالث: [في اللفظ فى الوضع يشترك بين شيئين]
ومن ذلك أيضا أن يفعل رسول الله صلى اله عليه وسلم فعلا يحتمل وجهين إحتمالا واحدا مثل ما روى أنه جمع فى السفر فإنه مجمل لأنه يجوز ان يكون فى سفر طويل أو فى سفر قصير فلا يجوز حمله على أحدهما دون الآخر الا بدليل، وكذلك اذا قضى فى عين تحتمل حالين إحتمالا واحدا مثل ان يروى ان الرجل أفطر فأمره صلى اله عليه وسلم بالكفارة فهو مجمل فإنه يجوز أن يكون أفطر بجماع ويجوز أن يكون أفطر بأكل فلا يجوز حمله على أحدهما دون الآخر إلا بدليل، فهذه الوجوه لا يختلف المذهب فى إجمالها وافتقارها إلى البيان.
فصل رابع: [في اللفظ فى الوضع يشترك بين شيئين]
واختلف المذهب فى ألفاظ: فمنها قوله تعالى ” وأحل الله البيع وحرم الربا ” وفيه قولان؛ قال فى أحدهما هو مجمل لأن الله تعالى أحل البيع وحرم الربا والربا هو الزيادة وما من بيع إلا وفيه زيادة وقد أحل الله البيع وحرم الربا فافتقر الى بيان مايحل ومايحرم. وقال فى القول الثانى ليس بمجمل، وهو الأصح لان البيع معقول فى اللغة فحمل على العموم الا فيما خصه الدليل.
فصل خامس: [في اللفظ فى الوضع يشترك بين شيئين]
ومنها الآيات التى ذكر فيها الأسماء الشرعية وهو قوله عز وجل ” وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ” وقوله ” فمن شهد منكم الشهر فليصمه ” وقوله تعالى ” ولله على الناس حج البيت ” فمن أصحابنا من قال هى عامة غير مجملة فتحمل الصلاة على كل دعاء والصوم على كل إمساك والحج على كل قصد إلا ما قام الدليل عليه، وهذه طريقة من قال ليس فى الأسماء شيء منقول. ومنهم من قال هى مجملة لأن المراد بها معان لا يدل اللفظ عليها فى اللغة وإنما تعرف من جهة الشرع فافتقر الى البيان كقوله عز وجل ” وآتوا حقه يوم حصاده ” وهذه طريقة من قال إن هذه الأسماء منقولة وهو الأصح..
فصل سادس: [في اللفظ فى الوضع يشترك بين شيئين]
ومنها الألفاظ التى علق التحليل والتحريم فيها على أعيان كقوله تعالى ” حرمت عليكم الميتة ”، فقال بعض أصحابنا إنها مجملة لأن العين لا توصف بالتحليل والتحريم وإنما الذى يوصف بذلك أفعالنا وافعالنا غير مذكورة، فافتقر إلى بيان مايحرم من الأفعال مما لايحرم. ومنهم من قال إنها ليست بمجملة، وهو الأصح لأن التحليل والتحريم فى مثل هذا إذا أطلق عقل منها التصرفات المقصودة فى اللغة ألا ترى أنه اذا قال لغيره حرمت عليك هذا الطعام عقل منه تحريم الأكل، وما عقل المراد من لفظه لم يكن مجملا.
فصل سابع: [في اللفظ فى الوضع يشترك بين شيئين]
وكذلك اختلفوا فى الألفاظ التى تتضمن نفيا وإثباتا كقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ” إنما الأعمال بالنيات ” وقوله صلى الله عليه وسلم ” لانكاح إلا بولى ” وما أشبهه؛ فمنهم من قال إن ذلك مجمل لأن الذى نفاه هو العمل والنكاح وذلك موجود فيجب أن يكون المراد به نفى صفة غير مذكورة فافتقر الى بيان تلك الصفة. ومنهم من قال ليس بمجمل، وهو الأصح لأن صاحب الشرع لاينفى ولايثبت المشاهدات وإنما ينفى ويثبت الشرعيات، فكأنه قال لا عمل فى الشرع إلا بنية ولانكاح فى الشرع إلا بولى، وذلك معقول من اللفظ فلايجوز ان يكون مجملا.
فصل ثامن: [في اللفظ فى الوضع يشترك بين شيئين]
وكذلك اختلفوا فى قوله صلى الله عليه وسلم ” رفع عن أمتى الخطأ والنسيان ”فمنهم من قال هو مجمل لأن الذى رفعه هو الخطأ وذلك موجود فيجب أن يكون المراد بها معنى غير مذكور فافتقر الى البيان. ومنهم من قال غير مجمل وهو الأصح لأنه معقول المعنى فى اللغة، ألا ترى أنه اذا قال لعبده رفعت عنك جنايتك عقل منه رفع المؤاخذة بكل مايتعلق بالجناية من التبعات فدل على أنه غير مجمل.
وأما المتشابه فاختلف أصحابنا فيه؛ فمنهم من قال هو والمجمل واحد، ومنهم من قال المتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه ومالم يطلع عليه أحدا من خلقه ومن الناس من قال المتشابه هو القصص والأمثال والحكم والحلال والحرام ومنهم من قال المتشابه الحروف المجموعة فى أوائل السور كألمص وألمر وغير ذلك. والصحيح هو الأول لأن حقيقة المتشابه ما اشتبه معناه، وأما ماذكروه فلا يوصف بذلك.
اعلم أن البيان هو الدليل الذى يتوصل بصحيح النظر إلى ماهو دليل عليه. وقال بعض أصحابنا هو إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلى.
فصل: [في وقوع البيان بالقول]
ويقع البيان بالقول ومفهوم القول والفعل والإقرار والإشارة والكتابة فأما البيان بالقول فكقوله صلى الله عليه وسلم ” فى الرقة ربع العشر ” وقوله صلى الله عليه وسلم ” فى خمس من الإبل شاة ”. وأما المفهوم فقد يكون تنبيها كقوله تعالى ” فلاتقل لهما أف ” فيدل على أن الضرب أولى بالمنع، وقد يكون دليلا كقوله صلى الله عليه وسلم ” فى سائمة الغنم زكاة ” فيدل على أنه لازكاة فى المعلوفة. وأما بالفعل فمثل بيان مواقيت الصلاة وأفعالها والحج ومناسكه بفعله صلى الله عليه وسلم. وأما الإقرار فهو كما روى أنه رأى قيسا يصلى بعد الصبح ركعتين فسأله فقال ركعتا الفجر ولم ينكر، فدل على جواز التنفل بعد الصبح. وأما الإشارة فكما قال صلى الله عليه وسلم ” الشهر هكذا وهكذا ” وحبس إبهامه فى الثالثة. وأما الكتابة فكما بين فرائض الزكاة وغيرها من الأحكام فى كتب كتبها. وأما القياس فكما نص على أربعة أعيان فى الربا ودل القياس على أن غيرها من المطعومات مثلها.
ولايجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة لأنه لايمكن الإحتفال من غير بيان. وأما تأخيره عن وقت الخطاب ففيه ثلاثة أوجه: أحدها يجوز، وهو قول أبى العباس وأبى سعيد الإصطخرى وأبى بكر القفال. والثانى أنه لايجوز، وهو قول أبى بكر الصيرفى وأبى إسحق المروزى، وهو قول المعتزلة. والثالث أنه يجوز تأخير بيان المجمل ولايجوز تأخير بيان العموم، وهو قول أبى الحسن الكرخى. ومن الناس من قال يجوز ذلك فى الأخبار دون الأمر والنهى. ومنهم من قال يجوز فى الأمر والنهى دون الأخبار. والصحيح أنه يجوز فى جميع ما ذكرناه لأن تأخيرها لا يخل بالإمتثال فجاز كتأخير بيان النسخ.
.
والنسخ فى اللغة يستعمل فى الرفع والإزالة يقال نسخت الشمس الظل ونسخت الرياح الآثار إذا أزالتها، ويستعمل فى النقل يقال نسخت الكتاب اذا نقلت مافيه وإن لم تزل شيئا عن مواضعه. وأما فى الشرع على الوجه الأول فى اللغة وهو الإزالة فحده الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا به مع تراخيه عنه. ولايلزم ماسقط عن الإنسان بالموت، فإن ذلك ليس بنسخ لأنه ليس بخطاب. ولا يلزم رفع ماكانوا عليه كشرب الخمر وغيره، فإنه ليس بنسخ لأنه لم يثبت بخطاب. ولايلزم ما أسقطه بكلام متصل كالإستثناء والغاية كقوله تعالى ” ثم اتموا الصيام الى الليل ” فإنه ليس بنسخ لأنه غير متراخ عنه. وقالت المعتزلة هو الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت المنسوخ غير ثابت على وجه لولاه لكان ثابتا بالنص الأول. وهذا فاسد لأنه اذا حد بهذا لم يكن الناسخ مزيلا لما ثبت بالخطاب الأول لأن مثل الحكم ما ثبت بالمنسوخ حتى يزيله بالناسخ، وقد بينا أن النسخ فى اللغة هو الإزالة والرفع.
والنسخ جائز فى الشرع. وقالت طائفة من اليهود لايجوز، وبه قال شرذمة من المسلمين. وهذا خطأ لأن التكليف فى قول بعض الناس إلى الله تعالى يفعل ما يشاء، وعلى قول بعضهم التكليف على سبيل المصلحة؛ فإن كان الى مشيئته فيجوز أن يشاء فى وقت تكليف فرض وفى وقت إسقاطه، وإن كان على وجه المصلحة فيجوز أن تكون المصلحة فى وقت فى أمر وفى وقت آخر فى غيره، فلا وجه للمنع منه.
وأما البداء فهو أن يظهر له ما كان خفيا عليه من قولهم بدا لى الفجر اذا ظهر له. وذلك لايجوز فى الشرع، وقال بعض الرافضة يجوز البداء على الله تعالى وقال منهم زرارة بن أعين فى شعره:
فتلك أمارات تجيء بوقتها *** ومالك عما قـدرالله مذهـب
ولولا البـدا سميته غير هائب *** وذكر البدا نعت لمن يتقلـب
ولولا البدا ما كان فيه تصرف *** وكان كنار دهـرها تتلهـب
وكان كضوء مشرق بطبيعة *** وبالله عن ذكر الطبائع يرغب
وزعم بعضهم أنه يجوز على الله تعالى البداء فيما لم يطلع عليه عباده، وهذا خطأ لأنهم إن أرادوا بالبداء مابيناه من أنه يظهر له ما كان خفيا عنه فهذا كفر وتعالى الله عز وجل عن ذلك علوا كبيرا، وإن كانوا أرادوا به تبديل العبادات والفروض فهذا لاننكره إلا أنه لايسمى بداء لأن حقيقة البداء مابينا ولم يكن لهذا القول وجه.
فصل: [في نسخ الفعل قبل دخول وقته]
فأما نسخ الفعل قبل دخول وقته فيجوز، وليس ذلك ببداء. ومن أصحابنا من قال لايجوز ذلك، وهو قول المعتزلة وزعموا أن ذلك بداء. والدليل على جواز ذلك ان الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه ثم نسخه قبل وقت الفعل فدل على جوازه. والدليل على أنه ليس ببداء ما بيناه من أن البداء ظهور ما كان خفيا عنه وليس فى النسخ قبل الوقت هذا المعنى.
باب بيان ما يجوز نسخه من الأحكام ومالايجوز
اعلم أن النسخ لايجوز إلا فيما يصح وقوعه على وجهين كالصوم والصلاة والعبادات الشرعية. فأما ما لا يجوز أن يكون إلا على وجه واحد مثل التوحيد وصفات الذات كالعلم والقدرة وغيرذلك فلا يجوز فيه النسخ. وكذلك ما أخبر الله عز وجل عنه من أخبار القرون الماضية والأمم السالفة، فلايجوز فيها النسخ وكذلك ما أخبر عن وقوعه فى المستقبل كخروج الدخال وغير ذلك، لم يجز فيه النسخ. وحكى إن أبى بكر الدقاق أنه قال ما ورد من الأمر بصيغة الخبر كقوله عز وجل ” والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ” لايجوز نسخه.ومن الناس من قال لايجوز مطلقا. والدليل على القائل الأول أن قوله تعالى ” والمطلقات يتربصن ” وإن كان لفظه لفظ الخبر إلا أنه أمر، ألا ترى أنه يجوز أن يقع فيه المخالفة، ولو كان خبرا لم يصح أن يقع فيه المخالفة، واذا ثبت أنه أمر جاز نسخه كسائر الأوامر. والدليل على القائل الآخر أنا إذا جوزنا النسخ فى الخبر صار أحد الخبرين كذبا وهذا لايجوز.
وكذلك لايجوز نسخ الإجماع لأن الإجماع لايكون إلا بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم والنسخ لايجوز بعد موته.
وكذلك لايجوز نسخ القياس لأن القياس تابع الأصول والأصول ثابتة فلا يجوز نسخ تابعها. فأما اذا ثبت الحكم فى عين بعلة وقيس عليها غيرها ثم نسخ الحكم فى تلك العين بطل الحكم فى الفرع المقيس عليه.ومن أصحابنا من قال لايبطل وهو قول أصحاب أبى حنيفة رحمه الله، وهذا غير صحيح لأن الفرع تابع للأصل فإذا بطل الحكم فى الأصل بطل فى الفرع.
فصل: [في النسخ فى الرسم دون الحكم]
اعلم أن النسخ يجوز فى الرسم دون الحكم كآية ” الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة ” فهذا نسخ رسمه، وحكمه باق. ويجوز فى الحكم دون الرسم كالعدة كانت حولا ثم نسخت بأربعة أشهر وعشرا، ورسمها باق وهو قوله ” متاعا إلى الحول غير إخراج ”. ويجوز فى الرسم والحكم كتحريم الرضاع، كان بعشر رضعات وكان مما يتلى فنسخ الرسم والحكم جميعا. وذهب طائفة إلى أنه لايجوز نسخ الحكم وبقاء التلاوة لأنه يبقى الدليل ولامدلول معه. وقالت طائفة لايجوز نسخ التلاوة مع بقاء الحكم لأن الحكم تابع للتلاوة فلايجوز ان يرتفع الأصل ويبقى التابع. وهذا خطأ لأن التلاوة والحكم فى الحقيقة حكمان فجاز رفع أحدهما وتبقية الآخر كما تقول فى عبادتين يجوز أن تنسخ احداهما وتبقى الأخرى.
فصل: [في النسخ إلى غير بدل]
ويجوز النسخ إلى غير بدل كالعدة نسخ مازاد على أربعة أشهر وعشرا إلى غير بدل. ويجوز النسخ إلى بدل كنسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. ويجوز النسخ إلى أخف من المنسوخ كنسخ مصابرة الواحد للعشرة نسخ إلى اثنين. ويجوز إإلى ما هو أغلظ منه كالصوم كان مخيرا بينه وبين الفطر ثم نسخ إلى الإنحتام بقوله عز وجل ” فمن شهد منكم الشهر فليصمه ”. ويجوز النسخ فى الحظر إلى الإباحة كقوله تعالى ” علم الله انكم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن ” حرم عليهم المباشرة ثم أبيح لهم ذلك. وقال بعض أصحابنا لايجوز النسخ الى ما هو أغلظ من المنسوخ، وهو قول أهل الظاهر. وهذا خطأ لأنا وجدنا ذلك فى الشرع وهو التخيير بين الصوم والفطر الى انحتام الصوم ولأنه اذا جاز أن يوجب تغليظا لم يكن فلأن يجوز أن ينسخ واجبا بما هو أغلظ أولى.
باب بيان ما يجوز به النسخ ومالايجوز
ويجوز نسخ الكتاب بالكتاب لقوله تعالى ” ماننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ”.
فصل: [في نسخ السنة بالسنة]
وكذلك يجوز نسخ السنة بالسنة كما يجوز نسخ الكتاب بالكتاب؛ الآحاد بالآحاد، والتواتر بالتواتر، والآحاد بالتواتر.فأما التواتر بالآحاد فلا يجوز لأن التواتر يوجب العلم فلا يجوز نسخه بما يوجب الظن.
فصل: [في نسخ الفعل بالفعل]
ويجوز نسخ الفعل بالفعل لأنهما كالقول مع القول، وكذلك نسخ القول بالفعل، والفعل بالقول. ومن الناس من قال لايجوز نسخ القول بالفعل. والدليل على جوازه ان الفعل كالقول فى البيان فكما يجوز بالقول جاز بالفعل.
فصل: [في نسخ السنة بالقرآن]
وأما نسخ السنة بالقرآن ففيه قولان: أحدهما لايجوز لأن الله تعالى جعل السنة بيانا للقرآن فقال تعالى ” لتبين للناس مانزل اليهم ” فلو جوزنا نسخ السنة بالقرآن لجعلنا القرآن بيانا للسنة. والثانى أنه يجوز. وهو الصحيح لأن القرآن أقوى من السنة، فإذا جاز نسخ السنة بالسنة فلأن يجوز بالقرآن أولى.
فصل: [في نسخ القرآن بالسنة]
وأما نسخ القرآن بالسنة فلايجوز من جهة السمع. ومن أصحابنا من قال لايجوز من جهة السمع ولا من جهة العقل. والأول أصح وقال أصحاب أبى حنيفة يجوز بالخبر المتواتر، وهو قول أكثر المتكلمين، وحكى ذلك عن أبى العباس بن سريج. والدليل على ذلك من جهة العقل أنه ليس فى العقل ما يمنع جوازه، والدليل على أنه لايجوز من جهة السمع قولع تعالى ” ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ” والسنة ليست مثل القرآن ألا ترى أنه لايثاب على تلاوة السنة كما يثاب على تلاوة القرآن ولا إعجاز فى لفظه كما فى لفظ القرآن، فدل على أنه ليس مثله.
فصل: [في النسخ بالإجماع]
وأما النسخ بالإجماع فلا يجوز لأن الإجماع حادث بعد موت النبى صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن ينسخ ما يتقرر فى شرعه، ولكن يستدل بالإجماع على النسخ، فإن الأمة لا تجتمع على الخطأ، فإذا رأيناهم قد أجمعوا على خلاف ما ورد به الشرع دلنا ذلك على أنه منسوخ.
فصل: [في النسخ بدليل الخطاب]
ويجوز النسخ بدليل الخطاب لأنه معنى النطق على المذهب الصحيح. ومن أصحابنا من جعله كالقياس، فعلى هذا لايجوز النسخ به، والأول أظهر. وأما النسخ بفحوى الخطاب وهو التنبيه فلا يجوز لأنه قياس. ومن أصحابنا من قال يجوز النسخ به لأنه كالنطق.
ولايجوز النسخ بالقياس. وقال بعص أصحابنا يجوز بالجلى منه دون الخفى ومن الناس من قال يجوز بكل دليل يقع به البيان والتخصيص. وهذا خطأ لأن القياس إنما يصح اذا لم يعارضه نص، فإذا كان هناك نص يخالف القياس لم يكن للقياس حكم فلايجوز النسخ به.
فصل: [في النسخ بأدلة العقل]
ولايجوز النسخ بأدلة العقل لأن دليل العقل ضربان: ضرب لايجوز أن يرد الشرع بخلافه، فلايتصور نسخ الشرع به. وضرب يجوز أن يرد الشرع بخلافه، وهو البقاء على حكم الأصل، وذلك إنما يوجب العمل به عند عدم الشرع، فإذا وجد الشرع بطلت دلالته فلايجوز النسخ به.
باب مايعرف به الناسخ من المنسوخ
واعلم أن النسخ قد يعلم بتصريح النطق كقوله عز وجل ” الآن خفف الله عنكم ”، وقد يعلم بإجماع وهو أن تجمع الأمة على خلاف ما ورد من الخبر فيستدل بذلك على أنه منسوخ لأن الأمة لا تجتمع على الخطأ، وقد يعلم بتأخير أحد اللفظين عن الآخر مع التعارض وذلك مثل ما روى أنه قال ” الثيب بالثيب جلد مائة والرجم ” ثم روى أنه رجم ماعزا ولم يجلده فدل على ان الجلد منسوخ.
فصل: [في التأخير فى الأخبار]
ويعلم التأخير فى الأخبار بالنطق كقوله صلى الله عليه وسلم ” كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ”، ويعلم بإخبار الصحابة أن هذا نزل بعد هذا و ورد هذا بعد هذا كما روى ” أنه كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار ”. فأما اذا كان راوى أحد الخبرين أقدم صحبة والآخر أحدث صحبة كابن مسعود وابن عباس لم يجز نسخ خبر الأقدم بخبر الأحدث لأنهما عاشا الى ان مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجوز أن يكون الأقدم سمع ما رواه بعد سماع الأحدث، ولأنه يجوز ان يكون الأحدث أرسله عمن قدمت صحبته ولاتكون روايته متأخرة عن رواية الأقدم فلايجوز النسخ مع الإحتمال. وأما اذا كان راوى أحد الخبرين أسلم بعد موت الآخر أو بعد قصته مثل ماروى طلق بن على ان النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن مس الذكر وهو يبنى مسجد المدينة فلم يوجب منه الوضوء وروى أبو هريرة إيحاب الوضوء وهو أسلم عام حنين بعد بناء المسجد، فيحتمل ان ينسخ حديث طلق بحديثه لأن الظاهر أنه لم يسمع مارواه إلا بعد هذه القصة فنسخه ويحتمل أن لاينسخ لجواز ان يكون قد سمعه قبل أن يسلم و أرسله عمن قدم اسلامه.
فصل: [في قول الصحابى بنسخ الآية]
فأما اذا قال الصحابى هذه الآية منسوخة أو هذا الخبر منسوخ لم يقبل منه حتى يبين الناسخ فينظر فيه. ومن الناس من قال ينسخ بخبره ويقلد فيه. ومنهم من قال إن ذكر الناسخ لم يقلد بل ينظر فيه، وإن لم يذكر الناسخ نسخ وقلد فيه. والدليل على انه لايقبل هو انه يجوز ان يكون قد اعتقد النسخ بطريق لا يوجب النسخ ولا يجوز ان يترك الحكم الثابت من غير نظر وبالله التوفيق.
باب الكلام فى نسخ بعض العبادة والزيادة فيها
اذا نسخ شيئا يتعلق بالعبادة لم يكن ذلك نسخا للعبادة. ومن الناس من قال إن ذلك نسخ للعبادة. ومن الناس من قال إن كان ذلك بعضا من العبادة كالركوع والسجود من الصلاة كان ذلك نسخا لها، وإن كان شيئا منفصلا منها كالطهارة لم يكن نسخا لها. وقال بعض المتكلمين إن كان ذلك مما لايجزئ العبادة قبل النسخ به إلا به كان نسخا لها سواء كان جزءا منها أو منفصلا عنها، وإن كان مما تجزئ العبادة قبل النسخ مع عدمه كالوقوف على يمين الإمام ودعاء التوجه وما أشبهه لم يكن ذلك نسخا لها. والدليل على أن ذلك ليس بنسخ أن الباقى من الجملة على ما كان عليه لم يزل فلم يجز أن يجعل منسوخا كما لو أمر بصوم وصلاة ثم نسخ أحدهما.
فأما اذا زاد فى العبادة شيئا لم يكن ذلك نسخا. وقال أهل العراق إن كانت الزيادة توجب تغيير الحكم المزيد عليه كإيجاب النية فى الوضوء والتغريب فى الحد كان نسخا، وإن كان ذلك فى نص القرآن لم يجز بخبر الواحد والقياس. وقال بعض المتكلمين إن كانت الزيادة شرطا فى المزيد كزيادة ركعة فى الصلاة كانت نسخا، وإن لم تكن شرطا فى المزيد لم تكن نسخا. والدليل على ماقلناه هو ان النسخ هو الرفع والإزالة، وهذا لم يرفع شيئا ولم يزله فلم يكن ذلك نسخا.
باب القول فى شرع من قبلنا وماثبت فى الشرع ولم يتصل بالأمة
اختلف أصحابنا فى شرع من قبلنا على ثلاثة أوجه: فمنهم من قال ليس بشرع لنا. ومنهم من قال هو شرع لنا إلا ماثبت نسخه. ومنهم من قال شرع إبراهيم صلوات الله عليه وحده شرع لنا دون غيره. ومنهم من قال شرع موسى شرع لنا إلا ما نسخ بشريعة عيسى صلوات الله عليه. ومنهم من قال شريعة عيسى صلى الله عليه وسلم شرع لنا دون غيره. وقال الشيخ الإمام رحمه الله ونور ضريحه: والذى نصرت فى التبصرة أن الجميع شرع لنا إلا ماثبت نسخه، والذى يصح الآن عندى أن شيئا من ذلك ليس بشرع لنا. والدليل عليه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرجع فى شيء من الأحكام ولا أحد من الصحابة الى شيء من كتبهم و لا الى خبر من أسلم منهم، ولو كان ذلك شرعا لنا لبحثوا عنه ورجعوا إليه، ولما لم يفعلوا ذلك دل ذلك على ماقلناه.
فصل: [في ورود الشرع بما لم يتصل بالأمة]
ما ورد به الشرع أو نزل به الوحى على الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يتصل بالامة من حكم مبتدأ أو نسخ أمر كانوا عليه فهل يثبت ذلك فى حق الأمة؟ فيه وجهان: من أصحابنا من قال انه يثبت فى حق الأمة، فإن كانت فى عبادة وجب القضاء. ومنهم من قال لايجب القضاء. وهو الصحيح لأن القبلة قد حولت الى الكعبة وأهل قباء يصلون الى بيت المقدس فأخبروا بذلك وهم فى الصلاة فاستداروا ولم يؤمروا بالإعادة، فلو كان قد ثبت فى حقهم ذلك لأمروا بالقضاء.
واعلم ان الكلام فى هذا الباب كلام فى باب من أبواب النحو غير أنه لما كثر احتياج الفقهاء اليه ذكرها الأصوليون، وأنا أشير الى ما يكثر من ذلك ان شاء الله تعالى، فمن ذلك من ويدخل ذلك فى الإستفهام والشرط والجزاء والخبر تقول فى الإستفهام: من عندك ومن جاءك، وتقول فى الشرط والجزاء: من جاءنى أكرمته ومن عصانى عاقبته، وتقول فى الخبر: جاءنى من أحبه. ويختص بذلك من يعقل دون ما لايعقل.
و أى تدخل فى الإستفهام والشرط والجزاء والخبر تقول فى الإستفهام أى شيء تحبه و أى شيء عندك، وفى الشرط والجزاء تقول: أى رجل جاءنى أكرمته، وفى الخبر: أيهم قام ضربته. ويستعمل ذلك فيمن يعقل ومالايعقل.
وما تدخل للنفى والتعجب والإستفهام، تقول فى النفى: ما رأيت زيدا، وفى التعجب تقول: ما أحسن زيدا، وفى الإستفهام: ما عندك، ويدخل فى الإستفهام عما لايعقل. وقد قيل إنه يدخل أيضا لما يعقل كقوله تعالى ” والسماء وما بناها ”.
ومن تدخل لابتداء الغاية والتبعيض والصلة، تقول فى ابتداء الغاية: سرت من البصرة وورد الكتاب من فلان، وفى التبعيض تقول: خذ من هذه الدراهم و أخذت من علم فلان، وفى الصلة تقول: ماجاءنى من أحد وما بالربع من أحد.
والى تدخل لانتهاء الغاية كقولك: ركبت الى زيد. وقد تستعمل بمعنى مع إلا انه لايحمل على ذلك الا بدليل كقوله عز وجل ” وأيديكم الى المرافق ” والمراد به مع المرافق. وزعم قوم من أصحاب أبى حنيفة انه يستعمل فى معنى مع على سبيل الحقيقة. وهذا خطأ لأنه لاخلاف انه لو قال: لفلان على من درهم الى عشرة لم يلزمه الدرهم العاشر، وكذلك اذا قال لامرأته أنت طالق من من واحد الى ثلاث لم تقع الطلقة الثالثة، فدل على انه للغاية.
والواو للجمع والتشريك فى العطف. وقال بعض أصحابنا هى للترتيب، وهذا خطأ لأنه لو كان للترتيب لما جاز أن يستعمل فيه لفظ المقارنة وهو ان تقول: جاءنى زيد وعمرو معا كما لايجوز ان يقال: جاءنى زيد ثم عمرو معا. وتدخل بمعنى رب فى ابتداء الكلام كقوله: ومهمه مغبرة أرجاؤه أى ورب مهمه، وفى القسم تقوم مقام الباء تقول والله بمعنى بالله.
والفاء للتعقيب والترتيب تقول:جاءنى زيد فعمرو ومعناه:جاءنى عمر عقيب زيد، واذا دخلت السوق فاشتر كذا يقتضى ذلك عقيب الدخول.
وثم للترتيب مع المهلة والتراخى تقول: جاءنى زيد ثم عمر ويقتضى ان يكون بعده بفصل..
وأم للإستفهام تقول: أكلت أم لا. وتدخل بمعنى أو تقول: سواء أحسنت أم لم تحسن.
وأو تدخل فى الشك للخبر تقول: كلمنى زيد أو عمرو. وتدخل فى التخيير فى الأمر كقوله تعالى ” اطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم ” وقال بعضهم فى النهى تدخل للجمع. والأول هو الأصح لأن النهى أمر بالترك كالأمر أمر بالفعل، فإذا لم يقتض الجمع فى الأمر لم يقتض فى النهى.
والباء تدخل للإلصاق كقولك: مررت بزيد وكتبت بالقلم. وتدخل للتبعيض كقوله: مسحت بالرأس. وقال أصحاب أبى حنيفة رحمه الله لاتدخل للتبعيض. وهذا غير صحيح لأنهم أجمعوا على الفرق بين قوله: أخذت قميصه وبين قوله: أخذت بقميصه، فعقلوا من الأول أخذ جميعه ومن الثانى الأخذ ببعضه، فدل على ماقلناه.
واللام تقتضى التمليك. وقال بعض أصحاب أبى حنيفة رحمه الله تقتضى الإختصاص دون الملك. وهذا غير صحيح لأنه لاخلاف أنه لو قال: هذه الدار لزيد اقتضى انها ملكه، فدل على أن ذلك مقتضاه. وتدخل أيضا للتعليل كقوله عز وجل ” لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ”. وتدخل للغاية فيه والصيرورة كقوله عز وجل ” فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ”.
وعلى للايجاب كقوله: لفلان على كذا، ومعناه واجب.
وفى للظرف تقول: على تمر فى جراب، معناه ان ذلك فيه.
ومتى ظرف زمان تقول: متى رأيته.
وأين ظرف مكان تقول: أين جلست.
واذ واذا ظرف للزمان إلا ان اذ لما مضى تقول: أنت طالق إذ دخلت الدار معناه فى الماض، واذا للمستقبل تقول: أنت طالق اذا دخلت الدار ومعناه فى المستقبل.
[ قوله للمستقبل] أى غالبا وقد تجيىء للماضى نحو قوله تعالى ” واذا رأوا تجارة أو لهوا ” الآية فإنها نزلت بعد الرؤية والإنفضاض، وللحال نحو ” والليل اذا يغشى ” فإن الغشيان مقارن لليل.
و حتى للغاية كقوله تعالى ” حتى مطلع الفجر ”. وتدخل للعطف كالواو إلا انه لايعطف به إلا على وجه التعظيم والتحقير تقول فى التعظيم: جاءنى الناس حتى السلطان، وتقول فى التحقير: كلمنى كل أحد حتى العبيد. وتدخل ليبتدأ الكلام بعده كقولك: قام الناس حتى زيد قائم.
وإنما للحصر، وهو جمع الشيء فيما أشير اليه ونفيه عما سواه تقول: إنما فى الدار زيد أى ليس فيها غيره وإنما الله واحد أي لا إله الا واحد.
باب الكلام فى أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم
وجملته ان الأفعال لا تخلو إما ان تكون قربة أو ليست بقربة. فإن لم تكن قربة كالأكل والشرب واللبس والقيام والقعود فهو يدل على الإباحة لأنه لا يقر على الحرام. فإن كان قربة لم يخل من ثلاثة أوجه: أحدها ان يفعل بيانا لغيره فحكمه مأخوذ من المبين؛ فإن كان المبين واجبا كان البيان واجبا، وإن كان ندبا كان البيان ندبا. ويعرف بأنه بيان لذلك بأن يصرح بأن ذلك بيان لذلك أو يعلم فى القرآن آية مجملة تفتقر الى البيان ولم يظهر بيانها بالقول فيعلم ان هذا الفعل بيان لها. والثانى ان يفعل امتثالا لأمر فيعتبر أيضا بالأمر؛ فإن كان على الوجوب علمنا انه فعل واجبا، وان كان على الندب علمنا انه فعل ندبا. والثالث ان يفعل ابتداء من غير سبب، فاختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه: أحدها انه على الوجوب إلا ان يدل الدليل على غيره، وهو قول أبى العباس وأبى سعيد، وهو مذهب مالك واكثر أهل العراق. والثانى انه على الندب إلا ان يدل الدليل على الوجوب. والثالث انه على الوقف، فلا يحمل على الوجوب ولا على الندب الا بدليل، وهو قول أبى بكر الصيرفى، وهو الأصح.والدليل عليه أن احتمال الفعل للوجوب كاحتماله للندب فوجب التوقف فيه حتى يدل الدليل.
فصل: [في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم]
اذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا وعرف انه فعله على وجه الوجوب أو على وجه الندب كان ذلك شرعا لنا إلا ان يدل الدليل على تخصيصه بذلك. وقال أبو بكر الدقاق لايكون ذلك شرعا لنا الا بدليل. والدليل على فساد ذلك قوله عز وجل: ” لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة ” ولأن الصحابة كانوا يرجعون فيما أشكل عليهم الى أفعاله فيقتدون به فيها، فدل على انه شرع فى حق الجميع.
فصل ثان: [في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم]
ويقع بالفعل جميع أنواع البيان من بيان المجمل وتخصيص العموم وتأويل الظاهر والنسخ. فأما بيان المجمل فهو كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة والحج، فكان فى فعله بيان المجمل الذى فى القرآن. وأما تخصيص العموم فكما روى انه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ثم روى انه صلى الله عليه وسلم صلى بعد العصر صلاة لها سبب فكان فى ذلك تخصيص عموم النهى. وأما تأويل الظاهر فكما روى عنه صلى الله عليه وسلم انه نهى عن القود فى الطرف قبل الإندمال، فيعلم ان المراد بالنهى الكراهية دون التحريم. وأما النسخ فكما روى عنه صلى الله عليه وسلم انه قال ” البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلدة مائة والرجم ” ثم روى انه صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا ولم يجلده، فدل على ان ذلك منسوخ.
فصل: [في تعارض قول وفعل]
وإن تعارض قول وفعل فى البيان ففيه أوجه: من أصحابنا من قال القول أولى. ومنهم من قال الفعل أولى. ومنهم من قال هما سواء. والأول أصح لأن الأصل فى البيان هو القول، ألا تراه يتعدى بصيغته والفعل لايتعدى إلا بدليل فكان القول أولى.
باب القول فى الإقرار والسكت عن الحكم
والإقرار أن يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فلاينكره أو يرى فعلا فلاينكره مع عدم الموانع، فيدل ذلك على جوازه مثل ماروى انه سمع رجلا يقول الرجل يجد مع امرأته رجلا إن قتل قتلتموه وإن تكلم جلدتموه وإن سكت سكت على غيظ أم كيف يصنع؟ ولم ينكر عليه فدل ذلك على انه اذا قتل قتل واذا قذف جلد، وكما روى انه صلى الله عليه وسلم رأى قيسا يصلى ركعتى الفجر بعد الصبح فلم ينكر عليه فدل على جواز ما لها سبب بعد الصبح لأنه لا يجوز ان يرى منكرا فلاينكره مع القدرة عليه لأن فى ترك الإنكار إيهام ان ذلك جائز.
فصل: [في ما فعل فى زمانه صلى الله عليه وسلم فلم ينكره]
وأما ما فعل فى زمانه صلى الله عليه وسلم فلم ينكره فإنه ينظر فيه؛ فإن كان ذلك مما لايجوز ان يخفى عليه من طريق العادة كان بمنزلة ما لو رآه فلم ينكره، وذلك مثل ماروى ان معاذا كان يصلى العشاء مع النبى صلى الله عليه وسلم ثم يأتى قومه فى بنى سلمة فصلى بهم هى له تطوع ولهم فريضة العشاء، فيدل ذلك على جواز الإفتراض خلف المتنفل، فإن مثل ذلك لايجوز ان يخفى عليه، فإن كان لايجوز لأنكر.وأما ما يجوز خفاؤه عليه وذلك مثل ماروى عن بعض الأنصار انه قال كنا نجامع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكسل ولانغتسل فهذا لايدل على الحكم لأن ذلك يفعل سرا ويجوز ان لايعلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم لايغتسلون لأن الأصل ان لايجب الغسل فلا يحتج به فى إسقاط الغسل، ولهذا قال عمر كرم الله وجهه حين روى له ذلك أو علم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقركم عليه فقالوا لا فقال فمه.
فصل: [في السكوت عن الحكم]
وأما السكت عن الحكم فهو ان يرى رجلا يفعل فعلا فلا يوجب فيه حكما فينظر فيه؛ فإن لم يكن ذلك موضع حاجة لم يكن فى سكوته دليل على الإيجاب ولا على إسقاط لجواز ان يكون قد أخر البيان الى وقت الحاجة وإن كان موضع حاجة مثل الأعرابى الذى سأله عن الجماع فى رمضان فأوجب عليه العتق ولم يوجب على المرأة دل سكوته على انه غير واجب عليها لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لايجوز.
والخبر هو الذى لايخلو من ان يكون صدقا أو كذبا. وله صيغة موضوعة فى اللغة تدل عليه، وهو قوله زيد قائم وعمرو قاعد وما أشبههما. وقالت الأشعرية لاصيغة له والدليل على فساد ذلك ان أهل اللغة قسموا الكلام أربعة أقسام فقالوا: أمر ونهى وخبر واستخبار , فالأمر قولك افعل، والنهى قولك لاتفعل، والخبر قولك زيد فى الدار، والإستخبار أزيد فى الدار، فدل على ماقلناه.
اعلم ان الخبر ضربان: متواتر وآحاد. فأما الآحاد فله باب يأتى الكلام فيه ان شاء الله تعالى وبه الثقة. وأما المتواتر فهو كل خبر علم مخبره ضرورة، وذلك ضربان؛ تواتر من جهة اللفظ كالأخبار المتفقة عن القرون الماضية والبلاد النائية، وتواتر من طريق المعنى كالأخبار المختلفة عن سخاء حاتم وشجاعة على رضى الله عنه وما أشبه ذلك، ويقع الكلام بكلا الضربين. وقال البراهمة لايقع العلم بشيء من الأخبار. وهذا جهل فإنا نجد أنفسنا عالمة بما يؤدى اليها الخبر المتواتر من أخبار مكة وخراسان وغيرهما كما نجدها عالمة بما تؤدى اليه الحواس، فكما لايجوز انكار العلم الواقع بالحواس لم يجز انكار العلم الواقع بالأخبار.
فصل: [في العلم الذى يقع به ضروري]
والعلم الذى يقع به ضرورى. وقال البلخى من المعتزلة العلم الواقع به نظرى، وهو قول ابى بكر الدقاق. وهذا خطأ لأنه لايمكن نفى مايقع به من العلم عن نفسه بالشك والشبهة، فكان ضروريا كالعلم الواقع عن الحواس.
فصل: [في شروط وقوع العلم الضروري]
ولايقع العلم الضرورى بالتواتر الا بثلاث شرائط: احداها ان يكون المخبرون عددا لايصح منهم التواطؤ على الكذب، وان يستوى طرفاه ووسطه فيروى هذا العدد عن مثله الى ان يتصل بالمخبر عنه، وان يكون الخبر فى الاصل عن مشاهدة او سماع. فأما اذا كان عن نظر واجتهاد مثل ان يجتهد العلماء فيؤديهم الإجتهاد الى شيء لم يقع العلم الضرورى بذلك. ومن أصحابنا من اعتبر ان يكون العدد مسلمين. ومن الناس من قال لايجوز ان يكون العدد أقل من اثنى عشر. ومنهم من قال أقله سبعون. ومنهم من قال ثلاثمائة وأكثر. وهذا كله خطأ لأن وقوع العلم به لايختص بشيء مما ذكروه فسقط اعتبار ذلك.
واعلم ان خبر الواحد ما انحط عن حد التواتر. وهو ضربان: مسند ومرسل. فأما المرسل فله باب يجيء ان شاء الله تعالى. وأما المسند فضربان: احدهما يوجب العلم، وهو على أوجه؛ منها خبر الله عز وجل وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها ان يحكى الرجل بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ويدعى علمه فلاينكر عليه فيقطع به على صدقه، ومنها ان يحكى الرجل شيئا بحضرة جماعة كثيرة ويدعى علمهم فلاينكرونه فيعلم بذلك صدقه، ومنها خبر الواحد الذى تلقته الأمة بالقبول فيقطع بصدقه سواء عمل الكل به او عمل البعض وتأوله البعض، فهذه الأخبار توجب العمل ويقع العلم بها استدلالا. والثانى يوجب العمل ولايوجب العلم، وذلك مثل الأخبار المروية والسنن والصحاح وما أشبهها. وقال بعض اهل العلم توجب العلم. وقال بعض المحدثين مايحكى اسناده أوجب العلم. وقال النظام يجوز ان يوجب العلم اذا قارنه سبب مثل ان يرى رجل مخرق الثياب فيجيء ويخبر بموت قريب له. وقال القاشانى وابن داود لايوجب العلم، وهو مذهب الرافضة. ثم اختلف هؤلاء فمنهم من قال العقل يمنع العمل به، ومنهم من قال العقل لايمنع الا ان الشرع لم يرد به. فالدليل على انه لايوجب العلم انه لو كان يوجب العلم لوقع العلم بخبر كل مخبر ممن يدعى النبوة او مآلا على غيره، ولما لم يقع العلم بذلك دل على انه لايوجب العلم. وأما الدليل على ان العقل لايمنع من التعبد به هو انه اذا جاز التعبد بخبر المفتى وشهادة الشاهد ولم يمنع العقل منه جاز بخبر المخبر. وأما الدليل على وجوب العمل به من حهة الشرع ان الصحابة رضى الله عنهم رجعت اليها فى الأحكام، فرجع عمر الى حديث حمل بن مالك فى دية الجنين وقال لو لم نسمع هذا لقضينا بغيره، ورجع عثمان كرم الله وجهه فى السكنى الى حديث فريعة بنت مالك، وكان على كرم الله وجهه يرجع الى اخبار الآحاد ويستظهر فيها باليمين وقال: اذا حدثنى احد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم احلفته فإذا حلف لى صدقته الا أبا بكر وحدثنى ابو بكر وصدق ابو بكر، ورجع ابن عمر الى خبر رافع بن خديج فى المخابرة، ورجعت الصحابة الى حديث عائشة رضى الله غنها فى التقاء الختانين فدل على وجوب العمل به.
فصل: [في رواية الواحد أو الاثنان]
ولافرق بين ان يرويه واحد او اثنان. وقال أبو على الجبائى لايقبل حتى يرويه اثنان عن اثنين. وهذا خطأ لأنه إخبار عن حكم شرعى، فجاز قبوله من واحد كالفتيا.
فصل: [في العمل به فيما تعم به البلوى]
ويجب العمل به فيما تعم به البلوى وفيما لاتعم. وقال أصحاب أبى حنيفة رحمه الله لايجوز العمل به فيما تعم به البلوى. والدليل على فساد ذلك انه حكم شرعى يسوغ فيه الإجتهاد فجاز اثباته بخبر الواحد قياسا على ما لاتعم به البلوى.
فصل: [في العمل بمخالف القياس]
ويقبل ان خالف القياس ويقدم عليه. وقال أصحاب مالك رحمه الله اذا خالف القياس لم يقبل. وقال أصحاب أبى حنيفة رضى الله عنه اذا خالف القياس والأصول لم يقبل, وذكروا ذلك فى خبر التفليس والقرعة والمصراة والدليل على أصحاب مالك ان الخبر يدل على قصد صاحب الشرع بصريحه والقياس يدل على قصده بالاستدلال والصريح أقوى فيجب ان يكون بالتقديم أولى. وأما أصحاب أبى حنيفة رحمه الله فإنهم ان ارادوا بالأصول القياس على ماثبت بالأصول فهو الذى قاله أصحاب مالك، وقد دللنا على فساده، وان أرادوا نفس الأصول التى هى الكتاب والسنة والإجماع فليس معهم فى المسائل التى ردوا فيها خبر الواحد كتاب ولاسنة ولا إجماع، فسقط ماقالوه.
والمرسل ما انقطع اسناده، وهو ان يروى عمن لم يسمع منه فيترك بينه وبينه واحد فى الوسط. فلا يخلو ذلك من احد امرين؛ إما ان يكون من مراسيل الصحابة أو من غير ها، فإن كان من مراسيل الصحابة وجب العمل به لأن الصحابة رضى الله عنهم مقطوع بعدالتهم.
وان كان من مراسيل غيرهم نظرت؛ فإن كان من مراسيل غير سعيد بن المسيب لم يعمل به. وقال مالك وأبو حنيفة رضى الله عنهما يعمل به كالمسند. وقال عيسى بن أبان ان كان من مراسيل التابعين وتابعى التابعين قبل، وان كان من مراسيل غيرهم لم يقبل الا ان يكون المرسل إماما. فالدليل على ماقلناه ان العدالة شرط فى صحة الخبر والذى ترك تسميته يجوز ان يكون عدلا ويجوز ان لايكون عدلا، فلايجوز قبول خبره حتى يعلم.
وان كان من مراسيل ابن المسيب فقد قال الشافعى رضى الله عنه مراسيله عندنا حسن، فمن أصحابنا من قال مراسيله حجة لأنها تتبعت فوجدت كلها مسانيد. ومنهم من قال هى كغيرها، وانما استحسنها الشافعى رضى الله عنه استئناسا بها لا انها حجة. فأما اذا قال أخبرنى الثقة عن الزهرى فهو كالمرسل لأن الثقة مجهول عندنا فهو بمنزلة من لم يذكره أصلا. وأما خبر العنعنة اذا قال أخبرنا مالك عن الزهرى فهو مسند. ومن الناس من قال حكمه حكم المرسل. وهذا خطأ لأن الظاهر انه سماع عن الزهرى وان كان بلفظ العنعنة، فوجب ان يقبل.
وأما اذا قال أخبرنى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبى صلى الله عليه وسلم فيحتمل ان يكون ذلك عن الجد الأدنى وهو محمد بن عبد الله بن عمرو فيكون مرسلا ويحتمل ان يكون عن جده الأعلى فيكون مسندا فلايحتج به لأنه يحتمل الإرسال والإسناد، فلايجوز اثباته بالشك الا ان يثبت انه ليس يروى الا عن جده الأعلى فحينئذ يحتج به.
واعلم انه لايقبل الخبر حتى يكون الراوى فى حال السماع مميزا ضابطا لأنه اذا لم يكن بهذه الصفة عن السماع لم يعلم مايرويه. وان لم يكن بالغا عند السماع جاز.ومن الناس من قال يعتبر ان يكون فى حال السماع بالغا.وهذا خطأ لأن المسلمين أجمعوا على قبول خبر أحداث الصحابة والعمل بما سمعوه فى حال الصغر كابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير وغيرهم، فدل على ماقلناه.
وينبغى ان يكون عدلا مجتنبا للكبائر متنزها عن كل مايسقط المروءة من المجون والسخف والأكل فى السوق والبول فى قارعة الطريق لأنه اذا لم يكن بهذه الصفة لم يؤمن من ان يتساهل فى رواية ما لا اصل له. ولهذا رد امير المؤمنين على كرم الله وجهه حديث أبى سنان الأشجعى وقال: بوال على عقيبه.
وينبغى ان يكون ثقة مأمونا لايكون كذابا ولا ممن يزيد فى الحديث ماليس منه. فإن عرف بشيء من ذلك لم يقبل حديثه لأنه لايؤمن ان يضيف الى رسول الله صلى الله عليه وسلم مالم يقله.
وكذلك يجب ان يكون غير مبتدع يدعو الناس الى البدعة، فإنه لايؤمن ان يضع الحديث على وفق بدعته. وأما اذا لم يدع الناس الى البدعة فقد قيل ان روايته تقبل. قال الشيخ الإمام رحمه الله والصحيح عندى انها لاتقبل لأن المبتدع فاسق فلايجوز ان يقبل خبره.
وينبغى ان يكون غير مدلس. والتدليس هو ان يروى عمن لم يسمع منه ويوهم انه سمع منه ويروى عن رجل يعرف بنسب أو اسم فيعدل عن ذلك الى مايعرف به من اسمائه يوهم انه غير ذلك الرجل المعروف. وقال كثير من اهل العلم يكره ذلك الا انه لايقدح ذلك روايته، وهو قول بعض اصحابنا لأنه لم يصرح بكذب. ومن الناس من قال برد حديثه لأنه فى الإيهام عمن لم يسمع توهيم ما لا أصل له فهو كالمصرح بالكذب، وفى العدول عن الإسم المشهور الى غيره تغرير عمن لعله غير مرضى، فوجب التوقف عن حديثه.
ويجب ان يكون ضابطا حال الرواية محصلا لما يرويه. فأما اذا كان مغفلا لم يقبل خبره فإنه لايؤمن ان يروى بما لم يسمعه. فإن كان له حال غفلة وحال تيقظ فما يرويه فى حال تيقظه مقبول، وان روى عنه حديثا ولم يعلم انه رواه فى حال التيقظ أو الغفلة لم يعمل به.
وجملته ان الراوى لايخلو إما ان يكون معلوم العدالة أو معلوم الفسق أو مجهول الحال.فإن كانت عدالته معلومة كالصحابة رضى الله عنهم أو أفاضل التابعين كالحسن وعطاء والشعبى والنخعى واجلاء الأئمة كمالك وسفيان وابى حنيفة والشافعى وأحمد وإسحق ومن يجرى مجراهم وجب قبول خبره ولم يجب البحث عن عدالته. وذهبت المعتزلة والمبتدعة الى ان فى الصحابة فساقا، وهم الذين قتلوا عليا كرم الله وجهه من أهل العراق واهل الشام، حتى اجترءوا ولم يخافوا الله عز وجل وأطلقوا هذا القول على طلحة والزبير وعائشة رضى الله عنهم.
وهذا قول عظيم فى السلف. والدليل على فساد قولهم ان عدالتهم قد ثبتت ونزاهتهم قد عرفت، فلايجوز ان تزول عما عرفناه الا بدليل قاطع، ولأنهم لم يظهر منهم معصية اعتمدوها وإنما دارت بينهم حروب كانوا فيها متأولين. ولهذا امتنع خلق كثير من خيار الصحابة والتابعين عن معاوية فى قتال على كرم الله وجهه على ذلك واستعفوا عن القتال معه لما دخل عليهم من الشبهة فى ذلك كسعد بن ابى وقاص وأصحاب ابن مسعود وغيرهم. ولهذا كان على رحمة الله عليه يأذن فى قبول شهادتهم والصلاة معهم، فلا يجوز ان يقدح ذلك فى عدالتهم.
فأما أبو بكرة ومن جلد معه فى القذف فإن أخبارهم تقبل لأنهم لم يخرجوا مخرج القذف بل أخرجوه مخرج الشهادة، وإنما جلدهم عمر كرم الله وجهه باجتهاده، فلم يجز ان يقدح بذلك فى عدالتهم ولم يرد خبرهم.
وان كان معلوم الفسق لم يقبل خبره سواء كان فسقه بتأويل أو بغير تأويل. وقال بعض المتكلمين يقبل الفاسق بتأويل اذا كان أمينا فى دينه حتى الكافر. والدليل على ماقلناه قوله عز وجل: ” ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ” ولم يفرق، ولأنه اذا لم يخرجه التأويل عن كونه كافرا أو فاسقا لم يخرجه عن ان يكون مردود الخبر.
فإذا كان مجهول الحال لم يقبل حتى تثبت عدالته. وقال أصحاب أبى حنيفة رحمه الله يقبل. والدليل على ما قلناه ان كل خبر لم يقبل من الفاسق لم يقبل من مجهول العدالة كالشهادة.
فصل: [في العدالة الباطنة]
ويجب البحث عن العدالة الباطنة كما يجب ذلك فى الشهادة. ومن أصحابنا من قال يكفى السؤال عن العدالة فى الظاهر، فإن مبناه على الظاهر وحسن الظن، ولهذا يجوز قبوله من العبد.
فصل: [في اشتراك رجلين فى الاسم والنسب]
فإن اشترك رجلان فى الإسم والنسب واحدهما عدل والآخر فاسق فروى خبر عن هذا الإسم لم يقبل حتى يعلم انه عن عدل.
فصل: [في التعديل والجرح]
ويثبت التعديل والجرح فى الخبر بواحد. ومن أصحابنا من قال لايثبت الا من نفسين كتزكية الشهود. والأول أصح لأن الخبر يقبل من واحد فكذلك تزكية المخبر.
فصل ثان: [في التعديل والجرح]
ولايقبل التعديل الا ممن يعرف شروط العدالة وما يفسق به الانسان لأنا لو قبلنا ممن لايعرف لم نأمن ان نشهد بعدالة من هو فاسق أو فسق من هو عدل.
فصل ثالث: [في التعديل والجرح]
ويكفى فى التعديل ان يقول هو عدل. ومن أصحابنا من قال يحتاج ان يقول هو عدل على ولى. ومن الناس من قال لابد من ذكر ما صار به عدلا. والدليل على انه يكفى قوله عدل ان قوله عدل يجمع انه عدل عليه وله ولايحتاج الى الزيادة عليه. والدليل على انه لايحتاج الى ذكرما يصير به عدلا أنا لانقبل الا قول من تعرف فيه شروط العدالة فلا يحتاج الى بيان شروط العدالة.
فصل رابع: [في التعديل والجرح]
ولايقبل الجرح الا مفسرا فأما اذا قال هو ضعيف أو فاسق لم يقبل. وقال أبو حنيفة رحمه الله اذا قال هو فاسق قبل من غير تفسير. وهذا غير صحيح لأن الناس يختلفون فيما يرد به الخبر ويفسق به الإنسان، فربما اعتقد فى أمر انه جرح وليس بجرح فوجب بيانه.
فصل خامس: [في التعديل والجرح]
فإن عدله واحد وجرحه آخر قدم الجرح على التعديل لأن مع شاهد الجرح زيادة علم فقدم على المزكى.
فصل: [في الرواية عن المجهول]
فإن روى عن المجهول عدل لم يكن ذلك تعديلا. وقال بعض أصحابنا ان ذلك تعديل. والدليل على فساد ذلك هو أنا نجد العدول يروون عن المدلسين والكذابين. ولهذا قال الشعبى: أخبرنى الحارث الأعور وكان والله كذابا، فلم يكن فى الرواية عنه دليل على التعديل.
فصل: [في عمل العدل بخبر المجهول]
فأما اذا عمل العدل بخبره وصرح بأنه عمل بخبره فهو تعديل لأنه لايجوز ان يعمل به الا وقد قبله. وإن عمل بموجب خبره ولم يسمع منه انه عمل بالخبر لم يكن ذلك تعديلا لأنه قد يعمل بموجب الخبر من جهة القياس ودليل غيره، فلم يكن ذلك تعديل.
باب القول فى حقيقة الرواية وما يتصل به
والإختيار فى الرواية ان يروى الخبر بلفظه لقوله صلى الله عليه وسلم:” نضر الله امرأ سمع مقالتى فوعاها ثم أداها كما سمع رب حامل فقه الى من هو تفقه منه ”. فإن اورد الرواية بالمعنى نظرت؛ فإن كان ممن لايعرف معنى الحديث لم يجز لأنه لايؤمن ان يغير معنى الحديث. وإن كان ممن يعرف معنى الحديث نظرت؛ فإن كان ذلك فى خبر محتمل لم يجز ان يروى بالمعنى لأنه ربما نقل بلفظ لايؤدى مراد الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يجوز ان يتصرف فيه، وان كان خبرا ظاهرا ففيه وجهان: من أصحابنا من قال لايجوز لأنه ربما كان التعبد باللفظ كتكبير الصلاة. والثانى انه يجوز، وهو الأظهر لأنه يؤدى معناه فقام مقامه، ولهذا روى عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ” اذا اصبت فلا بأس ”.
فصل: [في رواية بعض الحديث]
والأولى ان يروى الحديث بتمامه. فإن روى البعض وترك البعض لم يجز ذلك على قول من يقول ان نقل الحديث بالمعنى لايجوز، وأما على قول من قال ان ذلك جائز فقد اختلفوا فى هذا؛ فمنهم من قال ان كان قد نقل ذلك هو او غيره بتمامه مرة جاز ان ينقل البعض، وان لم يكن قد نقل ذلك لاهو ولا غيره لم يجز. ومنهم من قال ان كان يتعلق بعضه ببعض لم يجز. فإن كان الخبر يشتمل على حكمين لايتعلق احدهما بالآخر جاز نقل احد الحكمين بترك الآخر، وهو الصحيح. ومن الناس من قال لايجوز بكل حال. والدليل على الصحيح هو انه اذا تعلق بعضه ببعض كان فى ترك بعضه تغرير لأنه ربما عمل بظاهره فيخل بشرط من شروط الحكم، واذا لم يتعلق بعضه ببعض فهو كالخبرين يجوز نقل احدهما دون الآخر.
فصل: [في الرواية من الكتاب]
وينبغى لمن لايحفظ الحديث ان يرويه من الكتاب. فإن كان يحفظ فالأولى ان يرويه من كتاب لأنه أحوط. فإن رواه من حفظه جاز.وأما اذا لم يحفظ وعنده كتاب وفيه سماعه بخطه وهو يذكر انه سمع جاز ان يرويه وان لم يذكر كل حديث فيه. وان لم يذكر انه سمع هذا الخبر فهل يجوز ان يرويه فيه وجهان: احدهما يجوز، وعليه يدل قوله فى الرسالة. والثانى لايجوز، وهو الصحيح لأنه لايأمن ان يكون قد زور على خطه، فلا تجوز الرواية بالشك.
فصل: [في نسيان الشيخ الحديث]
فأما اذا روى عن شيخ ثم نسى الشيخ الحديث لم يسقط الحديث. وقال الكرخى من أصحاب أبى حنيفة رحمه الله يسقط الحديث.وهذا غير صحيح لأن الراوى عنه ثقة، ويجوز ان يكون الشيخ قد نسى فلا تسقط رواية صحيحة فى الظاهر.فأما اذا جحد الشيخ الحديث وكذب الراوى عنه سقط الحديث لأنه قطع بالجحود ورد الحديث فتعارض روايته وجحود الشيخ فسقطا، ولايكون هذا التكذيب قدحا فى الرواية عنه لأنه كما يكذبه الشيخ فهو ايضا يكذب الشيخ.
فصل: [في قراءة الشيخ على التلميذ]
فإذا قرأ الشيخ الحديث عليك جاز ان تقول سمعته وحدثنى وأخبرنى وقرأ على سواء قال اروه عنى أو لم يقل. وان أملى عليك جاز جميع ماذكرنا. ويجوز ان يقول أملى على لأن جميع ذلك صدق. فأما اذا قرأت عليه الحديث وهو ساكت يسمع لم يجز ان تقول سمعته ولاحدثنى ولا أخبرنى. ومن الناس من قال يجوز ذلك. وهذا خطأ لأنه لم يوجد شيء من ذلك. فإن قال له هو كما قرأت عليك فاقرأ به جاز ان يقول أخبرنى ولا يقول حدثنى لأن الإخبار يستعمل فى كل ما يتضمن الإعلام، والحديث لايستعمل الا فيما سمعه مشافهة. فأما اذا أجازه لم يجز ان يقول حدثنى ولا أخبرنى ويجوز ان يقول أجازنى وأخبرنى إجازة، ويجب العمل به. وقال بعض أهل الظاهر لايجب العمل به. وهذا خطأ لأن القصد ان يثبت ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم، فلا فرق بين النطق وبين مايقوم مقامه. فأما اذا كتب اليه رجل وعرف خطه جاز ان يقول كتب الى به فأخبرنى كتابة. ومن أصحابنا من قال لايقبل بالخط كما لايعمل فى الشهادة. وهذا غير صحيح لأن الأخبار مبناها على حسن الظن.
اذا روى الخبر ثقة رد بأمور: احدها ان يخالف موجبات العقول، فيعلم بطلانه لأن الشرع إنما يرد بمجوزات العقول، وأما بخلاف العقول فلا. والثانى ان يخالف نص كتاب أو سنة متواترة، فيعلم انه لا أصل له أو منسوخ. والثالث ان يخالف الإجماع، فيستدل به على انه منسوخ او لا أصل له لأنه لايجوز ان يكون صحيحا غير منسوخ وتجمع الأمة على خلافه. والرابع ان ينفرد الواحد برواية ما يجب على الكافة علمه، فيدل ذلك على انه لا أصل له لأنه لايجوز ان يكون له أصل وينفرد هو بعلمه من بين الخلق العظيم. والخامس ان ينفرد برواية ماجرت به العادة ان ينقله أهل التواتر، فلا يقبل لأنه لايجوز ان ينفرد فى مثل هذا بالرواية. فأمااذا ورد مخالفا للقياس او انفرد الواحد برواية ما تعم به البلوى لم يرد، وقد حكينا الخلاف فى ذلك، فأغنى عن الإعادة.
فصل: [في إذا ما انفرد بنقل حديث واحد لايرويه غيره]
فأما اذا انفرد بنقل حديث واحد لايرويه غيره لم يرد خبره. وكذلك لوانفرد بإسناد ما أرسله غيره او رفع ما وقفه غيره او بزيادة لا ينقلها غيره. وقال بعض أصحاب الحديث يرد. وقال أصحاب أبى حنيفة رحمه الله اذا لم ينقل نقل الأصل لم يقبل. وهذا خطأ لأنه يجوز ان يكون أحدهم سمع الحديث كله والآخر سمع بعضه أو احدهم سمعه مسندا او مرفوعا فلا نترك رواية الثقة لذلك.
هذا ما تيسر لي جمعه من تعليقات قصيرة على ألفاظ اللمع أخذتها من الشروح والحواشى في أصول الفقه حسب الميسور على أني في ذلك قليل البضاعة وضعيف الإستطاعة فالمرجو ممن اطلع على عيب أو خلل في هذه التعليقات التصويب والتصحيح مع الإنصاف على إعطاء كل ذي حق حقه كما أرجو الله تعالى أن ينفع بها كما نفع بمتنها لكل طالب ويبارك له فيها وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
0 comments on “كتاب: اللمع في أصول الفقه ***”