ملخص عن كتاب: اختصار علوم الحديث
كتاب من أهم ما ألِّف في علم مصطلح الحديث، اختصر فيه مؤلِّفه كتاب «علوم الحديث» لأبي عمرو بن الصلاح بأسلوب مبسط، وعبارات سهلة فصيحة، وجمل مفهومة، فيها من الفوائد والفرائد شيء كثير، كما استدرك المصنف على ابن الصلاح استدراكات مفيدة يبتدؤها بقوله: “قلت”
التصنيف الفرعي للكتاب: مصطلح الحديث
إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضو بن درع القرشي البصروي ثم الدمشقي، أبو الفداء، عماد الدين حافظ مؤرخ فقيه. ولد في قرية من أعمال بصرى الشام سنة (701 هـ)، وانتقل مع أخ له إلى دمشق سنة (706 هـ)، رحل في طلب العلم. وتوفي بدمشق سنة (774 هـ).
مُقَدِّمَةٌ
بِسْمِ الَّلهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ، مُفْتِي الْإِسْلَامِ، قُدْوَةُ الْعُلَمَاءِ، شَيْخُ الْمُحَدِّثِينَ، الْحَافِظُ الْمُفَسِّرُ، بَقِيَّةُ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ، عِمَادُ الدِّينِ، أَبُو الْفِدَاءِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ كَثِيرٍ الْقُرَشِيُّ الشَّافِعِيُّ، إِمَامُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ بِالشَّامِ الْمَحْرُوسِ، فَسَّحَ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ فِي أَيَّامِهِ، وَبَلَّغَهُ فِي الدَّارَيْنِ أَعْلَى قَصْدِهِ وَمُرَامِهِ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى.
(أَمَّا بَعْدُ)
فَإِنَّ عِلْمَ الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ- عَلَى قَائِلِهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ- قَدْ اعْتَنَى بِالْكَلَامِ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، كَالْحَاكِمِ وَالْخَطِيبِ، وَمَنْ قَبْلَهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ وَمَنْ بَعْدَهُمَا مِنْ حُفَّاظِ الْأُمَّةِ.
وَلَمَّا كَانَ مِنْ أَهَمِّ الْعُلُومِ وَأَنْفَعِهَا أَحْبَبْتَ أَنْ أُعَلِّقَ فِيهِ مُخْتَصَرًا نَافِعًا جَامِعًا لِمَقَاصِد الْفَوَائِدِ، وَمَانِعًا مِنْ مُشْكِلَاتِ الْمَسَائِلِ الْفَرَائِد وَكَانَ الْكِتَابُ الَّذِي اعْتَنَى بِتَهْذِيبِهِ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ، أَبُو عُمَرَ بْنُ الصَّلَاحِ- تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ- مِنْ مَشَاهِيرِ الْمُصَنَّفَاتِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الطَّلَبَةِ لِهَذَا الشَّأْنِ، وَرُبَّمَا عُنِيَ بِحِفْظِهِ بَعْضُ الْمَهَرَةِ مِنْ الشُّبَّانِ سَلَكْتُ وَرَاءَهُ، وَاحْتَذَيْت حِذَاءَهُ، وَاخْتَصَرْتُ مَا بَسَطَهُ، وَنَظَّمْتُ مَا فَرَطَهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَدِيثِ خَمْسَةً وَسِتِّينَ، وَتَبِعَ فِي ذَلِكَ الْحَاكِمَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظَ النَّيْسَابُورِيَّ، شَيْخَ الْمُحَدِّثِينَ وَأَنَا- بِعَوْنِ اللَّهِ- أَذْكُرُ جَمِيعَ ذَلِكَ، مَعَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ مِنَ الْفَوَائِدِ الْمُلْتَقَطَةِ مِنْ كِتَابِ الْحَافِظِ الْكَبِيرِ أَبِي بَكْرٍ الْبَيْهَقِيِّ، الْمُسَمَّى (بِالْمَدْخَلِ إِلَى كِتَابِ السُّنَنِ) وَقَدْ اخْتَصَرْتُهُ أَيْضًا بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا النَّمَطِ، مِنْ غَيْرِ وَكْسٍ وَلَا شَطَطٍ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ الِاتِّكَالُ.
ذِكْرُ تَعْدَادِ أَنْوَاعِ الْحَدِيثِ:
صَحِيحٌ، حَسَنٌ، ضَعِيفٌ، مُسْنَدٌ، مَرْفُوعٌ، مَوْقُوفٌ، مَقْطُوعٌ، مُرْسَلٌ، مُنْقَطِعٌ، مُعْضَلٌ.
مُدَلَّسٌ، شَاذٌّ، مُنْكَرٌ، مَا لَهُ شَاهِدٌ، زِيَادَةُ الثِّقَةِ، الْأَفْرَادُ.
الْمُعَلَّلُ، الْمُضْطَرِبُ، الْمُدْرَجُ، الْمَوْضُوعُ، الْمَقْلُوبُ.
مَعْرِفَةُ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ، مَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ سَمَاعِ الْحَدِيثِ وَإِسْمَاعِهِ، وَأَنْوَاعِ التَّحَمُّلِ مِنْ إِجَازَةٍ وَغَيْرِهَا.
مَعْرِفَةُ كِتَابَةِ الْحَدِيثِ وَضَبْطِهِ، كَيْفِيَّةُ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَشَرْطُ أَدَائِهِ.
آدَابُ الْمُحَدِّثِ، آدَابُ الطَّالِبِ، مَعْرِفَةُ الْعَالِي وَالنَّازِلِ.
الْمَشْهُورُ، الْغَرِيبُ، الْعَزِيزُ، غَرِيبُ الْحَدِيثِ وَلُغَتُهُ، الْمُسَلْسَلُ، نَاسِخُ الْحَدِيثِ وَمَنْسُوخُهُ.
الْمُصَحَّفُ إِسْنَادًا وَمَتْنًا، مُخْتَلِفُ الْحَدِيثِ، الْمَزِيدُ فِي الْأَسَانِيدِ.
الْمُرْسَلُ، مَعْرِفَةُ الصَّحَابَةِ، مَعْرِفَةُ التَّابِعِينَ، مَعْرِفَةُ أَكَابِرِ الرُّوَاةِ عَنْ الْأَصَاغِرِ.
الْمُدَبَّجُ وَرِوَايَةُ الْأَقْرَانِ، مَعْرِفَةُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، رِوَايَةُ الْآبَاءِ عَنْ الْأَبْنَاءِ، عَكْسُهُ.
مَنْ رَوَى عَنْهُ اثْنَانِ مُتَقَدِّمٌ وَمُتَأَخِّرٌ، مَنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا وَاحِدٌ.
مَنْ لَهُ أَسْمَاءٌ وَنُعُوتٌ مُتَعَدِّدَةٌ، الْمُفْرَدَاتُ مِنَ الْأَسْمَاءِ، مَعْرِفَةُ الْأَسْمَاءِ وَالْكُنَى، مَنْ عُرِفَ بِاسْمِهِ دُونَ كُنْيَتِهِ.
مَعْرِفَةُ الْأَلْقَابِ، الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ، الْمُتَّفِقِ وَالْمُفْتَرِقِ، نَوْعٌ مُرَكَّبٌ مِنْ الَّذَيْنِ قَبْلَهُ، نَوْعٌ آخَرُ مِنْ ذَلِكَ.
مَنْ نُسِبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، الْأَنْسَابُ الَّتِي يَخْتَلِفُ ظَاهِرُهَا وَبَاطِنُهَا، مَعْرِفَةُ الْمُبْهَمَاتِ، تَوَارِيخُ الْوَفَيَاتِ.
مَعْرِفَةُ الثِّقَاتِ وَالضُّعَفَاءِ، مَنْ خَلَطَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، الطَّبَقَاتُ.
مَعْرِفَةُ الْمَوَالِي مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالرُّوَاةِ، مَعْرِفَةُ بُلْدَانِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ.
وَهَذَا تَنْوِيعٌ مِنْ الشَّيْخِ أَبِي عَمْرٍو وَتَرْتِيبُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، قَالَ: وَلَيْسَ بِآخِرِ الْمُمْكِنِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَابِلٌ لِلتَّنْوِيعِ إِلَى مَا لَا يُحْصَى، إِذْ لَا تَنْحَصِرُ أَحْوَالُ الرُّوَاةِ وَصِفَاتُهُمْ، وَأَحْوَالُ مُتُونِ الْحَدِيثِ وَصِفَاتُهَا.
(قُلْتُ): وَفِي هَذَا كُلِّهِ نَظَرٌ، بَلْ فِي بَسْطِهِ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ إِلَى هَذَا الْعَدَدِ نَظَرٌ إِذْ يُمْكِنُ إِدْمَاجُ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ، وَكَانَ أَلْيَقَ مِمَّا ذَكَرَهُ ثُمَّ إِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ مُتَمَاثِلَاتٍ مِنْهَا بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ، وَكَانَ اللَّائِقُ ذِكْرَ كُلِّ نَوْعٍ إِلَى جَانِبِ مَا يُنَاسِبُهُ.
وَنَحْنُ نُرَتِّبُ مَا نَذْكُرُهُ عَلَى مَا هُوَ الْأَنْسَبُ، وَرُبَّمَا أَدْمَجْنَا بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ، طَلَبًا لِلِاخْتِصَارِ وَالْمُنَاسَبَةِ وَنُنَبِّهُ عَلَى مُنَاقَشَاتٍ لَا بُدَّ مِنْهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الصَّحِيحُ
تَقْسِيمُ الْحَدِيثِ إِلَى أَنْوَاعِهِ صِحَّةً وَضَعْفًا
قَالَ: اعْلَمْ- عَلَّمَكَ اللَّهُ وَإِيَّايَ- أَنَّ الْحَدِيثَ عِنْدَ أَهْلِهِ يَنْقَسِمُ إِلَى: صَحِيحٍ وَحَسَنٍ وَضَعِيفٍ.
(قُلْتُ): هَذَا التَّقْسِيمُ إِنْ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَلَيْسَ إِلَّا صَحِيحٌ أَوْ ضَعِيفٌ، وَإِنْ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ، فَالْحَدِيثُ يَنْقَسِمُ عِنْدَهُمْ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا قَدْ ذَكَرَهُ آنِفًا هُوَ وَغَيْرُهُ أَيْضًا.
تَعْرِيفُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
قَالَ: أَمَّا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فَهُوَ الْحَدِيثُ الْمُسْنَدُ الَّذِي يَتَّصِلُ إِسْنَادُهُ بِنَقْلِ الْعَدْلِ الضَّابِطِ عَنْ الْعَدْلِ الضَّابِطِ إِلَى مُنْتَهَاهُ، وَلَا يَكُونَ شَاذًّا وَلَا مُعَلَّلًا.
ثُمَّ أَخَذَ يُبَيِّنُ فَوَائِدَهُ، وَمَا احْتَرَزَ بِهَا عَنْ الْمُرْسَلِ وَالْمُنْقَطِعِ وَالْمُعْضَلِ وَالشَّاذِّ، وَمَا فِيهِ عِلَّةٌ قَادِحَةٌ وَمَا فِي رَاوِيهِ مِنْ نَوْعِ جَرْحٍ.
قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي يُحْكَمُ لَهُ بِالصِّحَّةِ، بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَقَدْ يَخْتَلِفُونَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، لِاخْتِلَافِهِمْ فِي وُجُودِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، أَوْ فِي اشْتِرَاطِ بَعْضِهَا، كَمَا فِي الْمُرْسَلِ.
(قُلْتُ): فَحَاصِلُ حَدِّ الصَّحِيحِ أَنَّهُ الْمُتَّصِلُ سَنَدُهُ بِنَقْلِ الْعَدْلِ الضَّابِطِ عَنْ مِثْلِهِ، حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ إِلَى مُنْتَهَاهُ، مِنْ صَحَابِيٍّ أَوْ مَنْ دُونَهُ، وَلَا يَكُونُ شَاذًّا، وَلَا مَرْدُودًا، وَلَا مُعَلَّلًا بِعِلَّةٍ قَادِحَةٍ، وَقَدْ يَكُونُ مَشْهُورًا أَوْ غَرِيبًا.
وَهُوَ مُتَفَاوِتٌ فِي نَظَرِ الْحُفَّاظِ فِي مَحَالِّهِ، وَلِهَذَا أَطْلَقَ بَعْضُهُمْ أَصَحَّ الْأَسَانِيدِ عَلَى بَعْضِهَا فَعَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ أَصَحُّهَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ والفَلَّاسُ أَصَحُّهَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ أَصَحُّهَا الْأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ الْبُخَارِيِّ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَزَادَ بَعْضُهُمْ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ، إِذْ هُوَ أَجَلُّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ.
أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ صِحَاحَ الْحَدِيثِ
(فَائِدَةٌ) أَوَّلُ مَنْ اعْتَنَى بِجَمْعِ الصَّحِيحِ أَبُو عُبَيْدَةَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ، وَتَلَاهُ صَاحِبُهُ وَتِلْمِيذُهُ أَبُو الْحَسَنِ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ النَّيْسَابُورِيُّ فَهُمَا أَصَحُّ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْبُخَارِيُّ أَرْجَحُ; لِأَنَّهُ اشْتَرَطَ فِي إِخْرَاجِهِ الْحَدِيثَ فِي كِتَابِهِ هَذَا أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي قَدْ عَاصَرَ شَيْخَهُ وَثَبَتَ عِنْدَهُ سَمَاعُهُ مِنْهُ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ مُسْلِمٌ الثَّانِيَ، بَلْ اكْتَفَى بِمُجَرَّدِ الْمُعَاصَرَةِ وَمِنْ هَاهُنَا يَنْفَصِلُ لَكَ النِّزَاعُ فِي تَرْجِيحِ تَصْحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَلَى مُسْلِمٍ، كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِأَبِي عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيِّ شَيْخِ الْحَاكِمِ، وَطَائِفَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَغْرِبِ.
ثُمَّ إِنَّ الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا لَمْ يَلْتَزِمَا بِإِخْرَاجِ جَمِيعِ مَا يُحْكَمُ بِصِحَّتِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ، فَإِنَّهُمَا قَدْ صَحَّحَا أَحَادِيثَ لَيْسَتْ فِي كِتَابَيْهِمَا، كَمَا يَنْقُلُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ الْبُخَارِيِّ تَصْحِيحَ أَحَادِيثَ لَيْسَتْ عِنْدَهُ، بَلْ فِي السُّنَنِ وَغَيْرِهَا.
عَدَدُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنَ الْحَدِيثِ
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: فَجَمِيعُ مَا فِي الْبُخَارِيِّ، بِالْمُكَرَّرِ سَبْعَةُ آلَافِ حَدِيثٍ وَمِائَتَانِ وَخَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ حَدِيثًا وَبِغَيْرِ الْمُكَرَّرِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَجَمِيعُ مَا فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ بِلَا تَكْرَارٍ نَحْوُ أَرْبَعَةِ آلَافٍ.
الزِّيَادَاتُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ الْأَخْرَمِ: قَلَّ مَا يَفُوتُ الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ.
وَقَدْ نَاقَشَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ قَدْ اسْتَدْرَكَ عَلَيْهِمَا أَحَادِيثَ كَثِيرَةً، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا مَقَالٌ، إِلَّا أَنَّهُ يَصْفُو لَهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ.
(قُلْتُ): فِي هَذَا نَظَرٌ، فَإِنَّهُ يُلْزِمُهُمَا بِإِخْرَاجِ أَحَادِيثَ لَا تَلْزَمُهُمَا، لِضَعْفِ رُوَاتِهِمَا عِنْدَهُمَا، أَوْ لِتَعْلِيلِهِمَا ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ خُرِّجَتْ كُتُبٌ كَثِيرَةٌ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ، يُؤْخَذُ مِنْهَا زِيَادَاتٌ مُفِيدَةٌ، وَأَسَانِيدُ جَيِّدَةٌ، كَصَحِيحِ أَبِي عَوَانَةَ، وَأَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَالْبُرْقَانِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَكُتُبٌ أُخَرُ الْتَزَمَ أَصْحَابُهَا صِحَّتَهَا، كَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَابْنِ حِبَّانَ البُسْتِيِّ، وَهُمَا خَيْرٌ مِنَ الْمُسْتَدْرَكِ بِكَثِيرٍ، وَأَنْظَفُ أَسَانِيدَ وَمُتُونًا.
وَكَذَلِكَ يُوجَدُ فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنَ الْأَسَانِيدِ وَالْمُتُونِ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِمَّا يُوَازِي كَثِيرًا مِنْ أَحَادِيثِ مُسْلِمٍ، بَلْ وَالْبُخَارِيِّ أَيْضًا، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُمَا، وَلَا عِنْدَ أَحَدِهِمَا، بَلْ وَلَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ الْأَرْبَعَةِ، وَهُمْ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
وَكَذَلِكَ يُوجَدُ فِي مُعْجَمَيْ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ، وَمَسْنَدَيْ أَبِي يَعْلَى وَالْبَزَّارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَانِيدِ وَالْمَعَاجِمِ وَالْفَوَائِدِ وَالْأَجْزَاءِ مَا يَتَمَكَّنُ الْمُتَبَحِّرُ فِي هَذَا الشَّأْنِ مِنَ الْحُكْمِ بِصِحَّةِ كَثِيرٍ مِنْهُ، بَعْدَ النَّظَرِ فِي حَالِ رِجَالِهِ، وَسَلَامَتِهِ مِنْ التَّعْلِيلِ الْمُفْسِدِ وَيَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى صِحَّتِهِ حَافِظٌ قَبْلَهُ، مُوَافَقَةً لِلشَّيْخِ أَبِي زَكَرِيَّا يَحْيَى النَّوَوِيِّ، وَخِلَافًا لِلشَّيْخِ أَبِي عَمْرٍو.
وَقَدْ جَمَعَ الشَّيْخُ ضِيَاءُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْمَقْدِسِيُّ فِي ذَلِكَ كِتَابًا سَمَّاهُ (الْمُخْتَارَةَ) وَلَمْ يَتِمَّ، كَانَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ مِنْ مَشَايِخِنَا يُرَجِّحُهُ عَلَى مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ جَمَعَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو ابْنُ الصَّلَاحِ عَلَى الْحَاكِمِ فِي مُسْتَدْرَكِهِ فَقَالَ وَهُوَ وَاسِعُ الْخَطْوِ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ، مُتَسَاهِلٌ بِالْقَضَاءِ بِهِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَتَوَسَّطَ فِي أَمْرِهِ، فَمَا لَمْ نَجِدْ فِيهِ تَصْحِيحًا لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ،، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا، فَهُوَ حَسَنٌ يُحْتَجُّ بِهِ، إِلَّا أَنْ تَظْهَرَ فِيهِ عِلَّةٌ تُوجِبُ ضَعْفَهُ.
(قُلْتُ): فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْحَدِيثِ كَثِيرَةٌ، فِيهِ الصَّحِيحُ الْمُسْتَدْرَكُ، وَهُوَ قَلِيلٌ، وَفِيهِ صَحِيحٌ قَدْ خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَوْ أَحَدُهُمَا، لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْحَاكِمُ وَفِيهِ الْحَسَنُ وَالضَّعِيفُ وَالْمَوْضُوعُ أَيْضًا وَقَدْ اخْتَصَرَهُ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ، وَبَيَّنَ هَذَا كُلَّهُ، وَجَمَعَ فِيهِ جُزْءًا كَبِيرًا مِمَّا وَقَعَ فِيهِ مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ، وَذَلِكَ يُقَارِبُ مِائَةَ حَدِيثٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
(تَنْبِيهٌ) قَوْلُ الْإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: ”لَا أَعْلَمُ كِتَابًا فِي الْعِلْمِ أَكْثَرَ صَوَابًا مِنْ كِتَابِ مَالِكٍ”، إِنَّمَا قَالَهُ قَبْلَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَقَدْ كَانَتْ كُتُبٌ كَثِيرَةٌ مُصَنَّفَةٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي السُّنَنِ، لِابْنِ جُرَيْحٍ، وَابْنِ إِسْحَاقَ- غَيْرَ السِّيرَةِ- وَلِأَبِي قُرَّةَ مُوسَى بْنِ طَارِقٍ الزَّبِيدِيِّ، وَمُصَنَّفُ عَبْدِ الرَّازِقِ بْنِ هَمَّامٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَكَانَ كِتَابُ مَالِكٍ، وَهُوَ (الْمُوَطَّأُ) أَجَلُّهَا وَأَعْظَمُهَا نَفْعًا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَكْبَرَ حَجْمًا مِنْهُ وَأَكْثَرَ أَحَادِيثَ وَقَدْ طَلَبَ الْمَنْصُورُ مِنَ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَنْ يَجْمَعَ النَّاسَ عَلَى كِتَابِهِ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ عِلْمِهِ وَاتِّصَافِهِ بِالْإِنْصَافِ، وَقَالَ ”إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا وَاطَّلَعُوا عَلَى أَشْيَاءَ لَمْ نَطَّلِعْ عَلَيْهَا”.
وَقَدْ اعْتَنَى النَّاسُ بِكِتَابِهِ (الْمُوَطَّأِ) وَعَلَّقُوا عَلَيْهِ كُتُبًا جَمَّةً وَمِنْ أَجْوَدِ ذَلِكَ كِتَابَا (التَّمْهِيدِ)، وَ(الِاسْتِذْكَارِ)، لِلشَّيْخِ أَبِي عُمَرَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ النَّمْرِيِّ الْقُرْطُبِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُتَّصِلَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْمُرْسَلَةِ وَالْمُنْقَطِعَةِ، وَالْبَلَاغَاتِ اللَّاتِي لَا تَكَادُ تُوجَدُ مُسْنَدَةً إِلَّا عَلَى نُدُورٍ.
إِطْلَاقُ اسْمِ ”الصَّحِيحِ” عَلَى التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ
وَكَانَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَالْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ يُسَمِّيَانِ كِتَابَ التِّرْمِذِيِّ ”الْجَامِعَ الصَّحِيحَ” وَهَذَا تَسَاهُلٌ مِنْهُمَا فَإِنَّ فِيهِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً مُنْكَرَةً وَقَوْلُ الْحَافِظِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ، وَكَذَا الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَنِ لِلنَّسَائِيِّ إِنَّهُ صَحِيحٌ، فِيهِ نَظَرٌ وَإِنَّ لَهُ شَرْطًا فِي الرِّجَالِ أَشَدُّ مِنْ شَرْطِ مُسْلِمٍ غَيْرَ مُسَلَّمٍ، فَإِنَّ فِيهِ رِجَالًا مَجْهُولِينَ إِمَّا عَيْنًا أَوْ حَالًا، وَفِيهِمْ الْمَجْرُوحُ، وَفِيهِ أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ وَمُعَلَّلَةٌ وَمُنْكَرَةٌ، كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِي (الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ).
وَأَمَّا قَوْلُ الْحَافِظِ أَبِي مُوسَى مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْمَدِينِيِّ عَنْ مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: إِنَّهُ صَحِيحٌ، فَقَوْلٌ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ فِيهِ أَحَادِيثَ ضَعِيفَةً، بَلْ وَمَوْضُوعَةً، كَأَحَادِيثِ فَضَائِلِ مَرْوٍ، وَعَسْقَلَانَ، وَالْبَرْثِ الْأَحْمَرِ عِنْدَ حِمْصٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا قَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ.
ثُمَّ إِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ قَدْ فَاتَهُ فِي كِتَابِهِ هَذَا- مَعَ أَنَّهُ لَا يُوَازِيهِ مُسْنَدٌ فِي كَثْرَتِهِ وَحُسْنِ سِيَاقَتِهِ- أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، بَلْ قَدْ قِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَقَعْ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَرِيبًا مِنْ مِائَتَيْنِ.
الْكُتُبُ الْخَمْسَةُ وَغَيْرُهَا
وَهَكَذَا قَوْلُ الْحَافِظِ أَبِي طَاهِرٍ السَّلَفِيِّ فِي الْأُصُولِ الْخَمْسَةِ، يَعْنِي الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا وَسُنَنَ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ إِنَّهُ اتَّفَقَ عَلَى صِحَّتِهَا عُلَمَاءُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ تَسَاهُلٌ مِنْهُ وَقَدْ أَنْكَرَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَهِيَ ذَلِكَ أَعْلَى رُتْبَةً مِنْ كُتُبِ الْمَسَانِيدِ كَمُسْنَدِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَالدَّارِمِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَبِي يَعْلَى، وَالْبَزَّارِ، وَأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، وَغَيْرِهِمْ; لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ عَنْ كُلِّ صَحَابِيٍّ مَا يَقَعُ لَهُمْ مِنْ حَدِيثِهِ.
التَّعْلِيقَاتُ الَّتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ
وَتَكَلَّمَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو عَلَى التَّعْلِيقَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَفِي مُسْلِمٍ أَيْضًا، لَكِنَّهَا قَلِيلَةٌ، قِيلَ إِنَّهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَوْضُوعًا.
وَحَاصِلُ الْأَمْرِ: أَنَّ مَا عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ فَصَحِيحٌ إِلَى مَنْ عَلَّقَهُ عَنْهُ، ثُمَّ النَّظَرُ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ مِنْهَا بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ فَلَا يُسْتَفَادُ مِنْهَا صِحَّةٌ وَلَا تُنَافِيهَا أَيْضًا; لِأَنَّهُ وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَرُبَّمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمَا كَانَ مِنْ التَّعْلِيقَاتِ صَحِيحًا فَلَيْسَ مِنْ نَمَطِ الصَّحِيحِ الْمُسْنَدِ فِيهِ، لِأَنَّهُ قَدْ وَسَمَ كِتَابَهُ (بِالْجَامِعِ الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ الْمُخْتَصَرِ فِي أُمُورِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسُنَنِهِ وَأَيَّامِهِ).
فَأَمَّا إِذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ ”قَالَ لَنَا” أَوْ ”قَالَ لِي فُلَانٌ كَذَا”، أَوْ ”زَادَنِي” وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهُوَ مُتَّصِلٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ.
وَحَكَى ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْ بَعْضِ الْمَغَارِبَةِ أَنَّهُ تَعْلِيقٌ أَيْضًا، يَذْكُرُهُ لِلِاسْتِشْهَادِ لَا لِلِاعْتِمَادِ، وَيَكُونُ قَدْ سَمِعَهُ فِي الْمُذَاكَرَةِ.
وَقَدْ رَدَّهَا ابْنُ الصَّلَاحِ، فَإِنَّ الْحَافِظَ أَبَا جَعْفَرٍ بْنَ حَمْدَانَ قَالَ: إِذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ ”وَقَالَ لِي فُلَانٌ” فَهُوَ مِمَّا سَمِعَهُ عَرَضًا وَمُنَاوَلَةً.
وَأَنْكَرَ ابْنُ الصَّلَاحِ عَلَى ابْنٍ حَزْمٍ رَدَّهُ حَدِيثَ الْمَلَاهِي حَيْثُ قَالَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ ”وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ” وَقَالَ أَخْطَأَ ابْنُ حَزْمٍ مِنْ وُجُوهٍ، فَإِنَّهُ ثَابِتٌ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ.
(قُلْتُ): وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَخَرَّجَهُ البُرْقَانِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ، مُسْنَدًا مُتَّصِلًا إِلَى هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ وَشَيْخِهِ أَيْضًا، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي كِتَابِ (الْأَحْكَامِ)، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
ثُمَّ حَكَى أَنَّ الْأَئِمَّةَ تَلَقَّتْ هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ بِالْقَبُولِ، سِوَى أَحْرُفٍ يَسِيرَةٍ، انْتَقَدَهَا بَعْضُ الْحُفَّاظِ، كَالدَّارَقُطْنِيِّ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ اسْتُنْبِطَ مِنْ ذَلِكَ الْقَطْعُ بِصِحَّةِ مَا فِيهِمَا مِنَ الْأَحَادِيثِ; لِأَنَّ الْأُمَّةَ مَعْصُومَةٌ عَنْ الْخَطَأِ، فَمَا ظَنَّتْ صِحَّتَهُ وَوَجَبَ عَلَيْهَا الْعَمَلُ بِهِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ صَحِيحًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَهَذَا جَيِّدٌ.
وَقَدْ خَالَفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ، وَقَالَ لَا يُسْتَفَادُ الْقَطْعُ بِالصِّحَّةِ مِنْ ذَلِكَ.
(قُلْتُ): وَأَنَا مَعَ ابْنِ الصَّلَاحِ فِيمَا عَوَّلَ عَلَيْهِ وَأَرْشَدَ إِلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ”حَاشِيَةٌ” ثُمَّ وَقَفْتُ بَعْدَ هَذَا عَلَى كَلَامٍ لِشَيْخِنَا الْعَلَّامَةِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، مَضْمُونُهُ أَنَّهُ نَقَلَ الْقَطْعَ بِالْحَدِيثِ الَّذِي تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ عَنْ جَمَاعَاتٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ مِنْهُمْ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ، وَابْنُ حَامِدٍ، وَأَبُو يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ، وَأَبُو الْخَطَّابِ، وَابْنُ الزَّاغُونِيِّ، وَأَمْثَالُهُمْ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ ”وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ كَأَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَابْنِ فُورَكٍ قَالَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ قَاطِبَةً وَمَذْهَبُ السَّلَفِ عَامَّةً”.
وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ اسْتِنْبَاطًا فَوَافَقَ فِيهِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ.
وَهُوَ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ كَالصَّحِيحِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ
وَهَذَا النَّوْعُ لَمَّا كَانَ وَسَطًا بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ فِي نَظَرِ النَّاظِرِ، لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، عَسُرَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ وَضَبْطُهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ وَذَلِكَ; لِأَنَّهُ نِسْبِيٌّ، شَيْءٌ يَنْقَدِحُ عِنْهُ الْحَافِظِ، رُبَّمَا تَقْصُرُ عِبَارَتُهُ عَنْهُ.
وَقَدْ تَجَشَّمَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ حَدَّهُ فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ هُوَ مَا عُرِفَ مَخْرَجُهُ وَاشْتُهِرَ رِجَالُهُ، قَالَ: وَعَلَيْهِ مَدَارُ أَكْثَرِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَيَسْتَعْمِلُهُ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ.
(قُلْتُ): فَإِنْ كَانَ الْمُعَرِّفُ هُوَ قَوْلُهُ ”مَا عُرِفَ مَخْرَجُهُ وَاشْتُهِرَ رِجَالُهُ، فَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ كَذَلِكَ، بَلْ وَالضَّعِيفُ وَإِنْ كَانَ بَقِيَّةُ الْكَلَامِ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ، فَلَيْسَ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُسَلَّمًا لَهُ أَنَّ أَكْثَرَ الْحَدِيثِ مِنَ قَبِيلِ الْحِسَانِ، وَلَا هُوَ الَّذِي يَقْبَلُهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَيَسْتَعْمِلُهُ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ.
تَعْرِيفُ التِّرْمِذِيِّ لِلْحَدِيثِ الْحَسَنِ
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَرُوِّينَا عَنْ التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ يُرِيدُ بِالْحَسَنِ أَنْ يَكُونَ فِي إِسْنَادِهِ مَنْ يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ، وَلَا يَكُونَ حَدِيثًا شَاذًّا، وَيُرْوَى مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوُ ذَلِكَ.
وَهَذَا إِذَا كَانَ قَدْ رُوِيَ عَنْ التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ قَالَهُ، فَفِي أَيِّ كِتَابٍ لَهُ قَالَهُ؟ وَأَيْنَ إِسْنَادُهُ عَنْهُ؟ وَإِنْ كَانَ قَدْ فُهِمَ مِنْ اصْطِلَاحِهِ فِي كِتَابِهِ ”الْجَامِعِ” فَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
تَعْرِيفَاتٌ أُخْرَى لِلْحَسَنِ
قَالَ الشَّيْخُ عَمْرُو بْنُ الصَّلَاحِ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ ضَعْفٌ قَرِيبٌ مُحْتَمَلٌ، هُوَ الْحَدِيثُ الْحَسَنُ، وَيَصْلُحُ لِلْعَمَلِ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ: وَكُلُّ هَذَا مُسْتَبْهِمٌ لَا يَشْفِي الْغَلِيلَ، وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْخَطَّابِيُّ مَا يَفْصِلُ الْحَسَنَ عَنْ الصَّحِيحِ، وَقَدْ أَمْعَنْتُ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ وَالْبَحْثَ، فَتَنَقَّحَ لِي وَاتَّضَحَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْحَسَنَ قِسْمَانِ:
(أَحَدُهُمَا) الْحَدِيثُ الَّذِي لَا يَخْلُو رِجَالُ إِسْنَادِهِ مِنْ مَسْتُورٍ لَمْ تَتَحَقَّقْ أَهْلِيَّتُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ مُغَفَّلًا كَثِيرَ الْخَطَأِ، وَلَا هُوَ مُتَّهَمٌ بِالْكَذِبِ، وَيَكُونُ مَتْنُ الْحَدِيثِ قَدْ رُوِيَ مِثْلُهُ أَوْ نَحْوُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَيَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ شَاذًّا أَوْ مُنْكَرًا ثُمَّ قَالَ وَكَلَامُ التِّرْمِذِيِّ عَلَى هَذَا الْقِسْمِ يُتَنَزَّلُ.
(قُلْتُ): لَا يُمْكِنُ تَنْزِيلُهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ (الْقِسْمُ الثَّانِي) أَنْ يَكُونَ رَاوِيهِ مِنَ الْمَشْهُورِينَ بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَلَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ رِجَالِ الصَّحِيحِ فِي الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ، وَلَا يُعَدُّ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ مُنْكَرًا، وَلَا يَكُونُ الْمَتْنُ شَاذًّا وَلَا مُعَلَّلًا قَالَ وَعَلَى هَذَا يُتَنَزَّلُ كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ، قَالَ وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَجْمَعُ بَيْنَ كَلَامَيْهِمَا.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو: لَا يَلْزَمُ مِنْ وُرُودِ الْحَدِيثِ مِنْ طُرُقِ مُتَعَدِّدَةٍ كَحَدِيثِ «الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ» أَنْ يَكُونَ حَسَنًا; لِأَنَّ الضَّعْفَ يَتَفَاوَتُ، فَمِنْهُ مَا لَا يَزُولُ بِالْمُتَابَعَاتِ، يَعْنِي لَا يُؤَثِّرُ كَوْنُهُ تَابِعًا أَوْ مَتْبُوعًا، كَرِوَايَةِ الْكَذَّابِينَ وَالْمَتْرُوكِينَ، وَمِنْهُ ضَعْفٌ يَزُولُ بِالْمُتَابَعَةِ، كَمَا إِذَا كَانَ رَاوِيهِ سَيِّئَ الْحِفْظِ، أَوْ رَوَى الْحَدِيثَ مُرْسَلًا، فَإِنَّ الْمُتَابَعَةَ تَنْفَعُ حِينَئِذٍ، وَيُرْفَعُ الْحَدِيثُ عَنْ حَضِيضِ الضَّعْفِ إِلَى أَوْجِ الْحُسْنِ أَوْ الصِّحَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
التِّرْمِذِيُّ أَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ الْحَسَنِ
قَالَ وَكِتَابُ التِّرْمِذِيِّ أَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ الْحَسَنِ، وَهُوَ الَّذِي نَوَّهَ بِذِكْرِهِ، وَيُوجَدُ فِي كَلَامِ غَيْرِهِ مِنْ مَشَايِخِهِ، كَأَحْمَدَ، وَالْبُخَارِيِّ، وَكَذَا مَنْ بَعْدَهُ، كَالدَّارَقُطْنِيِّ.
أَبُو دَاوُدَ مِنْ مَظَانِّ الْحَدِيثِ الْحَسَنِ
قَالَ: وَمِنْ مَظَانِّهِ سُنَنُ أَبِي دَاوُدَ، رُوِّينَا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ذَكَرْتُ الصَّحِيحَ وَمَا يُشْبِهُهُ وَيُقَارِبُهُ، وَمَا كَانَ فِيهِ وَهَنٌ شَدِيدٌ بَيَّنْتُهُ، وَمَا لَمْ أَذْكُرْ فِيهِ شَيْئًا فَهُوَ صَالِحٌ، وَبَعْضُهَا أَصَحُّ مِنْ بَعْضٍ قَالَ: وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَذْكُرُ فِي كُلِّ بَابٍ أَصَحَّ مَا عَرَفَهُ فِيهِ.
(قُلْتُ): وَيُرْوَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَمَا سَكَتَ عَنْهُ هُوَ حَسَنٌ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: فَمَا وَجَدْنَاهُ فِي كِتَابِهِ مَذْكُورًا مُطْلَقًا وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْ الصَّحِيحَيْنِ، وَلَا نَصَّ عَلَى صِحَّتِهِ أَحَدٌ، فَهُوَ حَسَنٌ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ.
(قُلْتُ): الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي دَاوُدَ بِكِتَابِهِ (السُّنَنِ) كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَيُوجَدُ فِي بَعْضِهَا مِنَ الْكَلَامِ، بَلْ وَالْأَحَادِيثِ، مَا لَيْسَ فِي الْأُخْرَى وَلِأَبِي عُبَيْدٍ الْآجُرِّيِّ عَنْهُ أَسْئِلَةٌ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَالتَّصْحِيحِ وَالتَّعْلِيلِ، كِتَابٌ مُفِيدٌ وَمِنْ ذَلِكَ أَحَادِيثُ وَرِجَالٌ قَدْ ذَكَرَهَا فِي سُنَنِهِ فَقَوْلُهُ وَمَا سَكَتَ عَلَيْهِ فَهُوَ حَسَنٌ، مَا سَكَتَ عَلَيْهِ فِي سُنَنِهِ فَقَطْ؟ أَوْ مُطْلَقًا؟ هَذَا مِمَّا يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ وَالتَّيَقُّظُ لَهُ.
كِتَابُ الْمَصَابِيحٍ لِلْبَغَوِيِّ
قَالَ: وَمَا يَذْكُرُهُ الْبَغَوِيُّ فِي كِتَابِهِ (الْمَصَابِيحِ) مِنْ أَنَّ الصَّحِيحَ مَا أَخْرَجَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا، وَأَنَّ الْحَسَنَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَشْبَاهُهُمَا، فَهُوَ اصْطِلَاحٌ خَاصٌّ، لَا يُعْرَفُ إِلَّا لَهُ وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ ذَلِكَ لِمَا فِي بَعْضِهِمَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُنْكَرَةِ.
صِحَّةُ الْإِسْنَادِ لَا يَلْزَمُ مِنْهَا صِحَّةُ الْحَدِيثِ
قَالَ: وَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ أَوْ الْحُسْنِ عَلَى الْإِسْنَادِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْحُكْمُ بِذَلِكَ عَلَى الْمَتْنِ، إِذْ قَدْ يَكُونُ شَاذًّا أَوْ مُعَلَّلًا.
قَوْلُ التِّرْمِذِيِّ حَسَنٌ صَحِيحٌ
قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ التِّرْمِذِيِّ ”هَذَا حَسَنٌ صَحِيحٌ” فَمُشْكِلٌ; لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ كَالْمُتَعَذِّرِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ إِسْنَادَيْنِ حَسَنٍ وَصَحِيحٍ.
(قُلْتُ): وَهَذَا يَرُدُّهُ أَنَّهُ يَقُولُ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ ”هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ”.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ حَسَنٌ بِاعْتِبَارِ الْمَتْنِ، صَحِيحٌ بِاعْتِبَارِ الْإِسْنَادِ وَفِي هَذَا نَظَرٌ أَيْضًا، فَإِنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ مَرْوِيَّةٍ فِي صِفَةِ جَهَنَّمَ، وَفِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ يُشَرِّبُ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ عَلَى الْحَدِيثِ كَمَا يُشَرِّبُ الْحُسْنَ بِالصِّحَّةِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَا يَقُولُ فِيهِ ”حَسَنٌ صَحِيحٌ” أَعْلَى رُتْبَةً عِنْدَهُ مِنَ الْحَسَنِ، وَدُونَ الصَّحِيحِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ عَلَى الْحَدِيثِ بِالصِّحَّةِ الْمَحْضَةِ أَقْوَى مِنْ حُكْمِهِ عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ مَعَ الْحُسْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
النوع الثَّالِثُ: الْحَدِيثُ الضَّعِيفُ
قَالَ: وَهُوَ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ فِيهِ صِفَاتُ الصَّحِيحِ، وَلَا صِفَاتُ الْحَسَنِ الْمَذْكُورَةُ كَمَا تَقَدَّمَ.
ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى تَعْدَادِهِ وَتَنَوُّعِهِ بِاعْتِبَارِ فَقْدِهِ وَاحِدَةً مِنْ صِفَاتِ الصِّحَّةِ أَوْ أَكْثَرَ، أَوْ جَمِيعَهَا.
فَيَنْقَسِمُ جِنْسُهُ إِلَى: الْمَوْضُوعِ، وَالْمَقْلُوبِ، وَالشَّاذِّ، وَالْمُعَلَّلِ، وَالْمُضْطَرِبِ، وَالْمُرْسَلِ، وَالْمُنْقَطِعِ، وَالْمُعْضَلِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
النوع الرَّابِعُ: الْمُسْنَدُ
قَالَ الْحَاكِمُ: هُوَ مَا اتَّصَلَ إِسْنَادُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ الْخَطِيبُ: هُوَ مَا اتَّصَلَ إِلَى مُنْتَهَاهُ.
وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ الْمَرْوِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَوَاءٌ كَانَ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْقَطِعًا.
فَهَذِهِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ.
النوع الْخَامِسُ: الْمُتَّصِلُ
وَيُقَالُ لَهُ ”الْمَوْصُولُ” أَيْضًا، وَهُوَ يَنْفِي الْإِرْسَالَ وَالِانْقِطَاعَ، وَيَشْمَلُ الْمَرْفُوعَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمَوْقُوفَ عَلَى الصَّحَابِيِّ أَوْ مَنْ دُونَهُ.
النوع السَّادِسُ: الْمَرْفُوعُ
هُوَ مَا أُضِيفَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَوْلًا أَوْ فِعْلًا عَنْهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْقَطِعًا أَوْ مُرْسَلًا، وَنَفَى الْخَطِيبُ أَنْ يَكُونَ مُرْسَلًا فَقَالَ هُوَ مَا أَخْبَرَ فِيهِ الصَّحَابِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
النوع السَّابِعُ: الْمَوْقُوفُ
وَمُطْلَقُهُ يَخْتَصُّ بِالصَّحَابِيِّ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَنْ دُونَهُ إِلَّا مُقَيَّدًا وَقَدْ يَكُونُ إِسْنَادُهُ مُتَّصِلًا وَغَيْرَ مُتَّصِلٍ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ أَيْضًا أَثَرًا وَعَزَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ إِلَى الْخُرَاسَانِيِّينَ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ الْمَوْقُوفَ أَثَرًا.
(قَالَ) وَبَلَغَنَا عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الفُورَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْخَبَرُ مَا كَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْأَثَرُ مَا كَانَ عَنْ الصَّحَابِيِّ.
(قُلْتُ): وَمِنْ هَذَا يُسَمِّي كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْكِتَابَ الْجَامِعَ لِهَذَا وَهَذَا (بِالسُّنَنِ وَالْآثَارِ) كَكِتَابَيْ (السُّنَنِ وَالْآثَارِ) لِلطَّحَاوِيِّ، وَالْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
النوع الثَّامِنُ: الْمَقْطُوعُ
وَهُوَ الْمَوْقُوفُ عَلَى التَّابِعِينَ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَهُوَ غَيْرُ الْمُنْقَطِعِ وَقَدْ وَقَعَ فِي عِبَارَةِ الشَّافِعِيِّ وَالطَّبَرَانِيِّ إِطْلَاقُ ”الْمَقْطُوعِ” عَلَى مُنْقَطِعِ الْإِسْنَادِ غَيْرِ الْمَوْصُولِ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو عَلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ ”كُنَّا نَفْعَلُ”، أَوْ ”نَقُولُ كَذَا”، إِنْ لَمْ يُضِفْهُ إِلَى زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ البُرْقَانِيُّ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ إِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمَوْقُوفِ وَحَكَمَ النَّيْسَابُورِيُّ بِرَفْعِهِ; لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى التَّقْرِيرِ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ.
قَالَ: وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ ”كُنَّا لَا نَرَى بَأْسًا بِكَذَا”، أَوْ ”كَانُوا يَفْعَلُونَ أَوْ يَقُولُونَ”، أَوْ ”يُقَالُ كَذَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ” إِنَّهُ مِنَ قَبِيلِ الْمَرْفُوعِ.
وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ ”أُمِرْنَا بِكَذَا” أَوْ ”نُهِينَا عَنْ كَذَا” مَرْفُوعٌ مُسْنَدٌ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ فَرِيقٌ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَكَذَا الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ ”مِنْ السُّنَّةِ كَذَا”، وَقَوْلِ أَنَسٍ ”أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ”.
قَالَ وَمَا قِيلَ مِنْ تَفْسِيرِ الصَّحَابِيِّ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ فِيمَا كَانَ سَبَبَ نُزُولٍ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
أَمَّا إِذَا قَالَ الرَّاوِي عَنْ الصَّحَابِيِّ ”يَرْفَعُ الْحَدِيثَ” أَوْ ”يَنْمِيهِ” أَوْ ”يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ”، فَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ قَبِيلِ الْمَرْفُوعِ الصَّرِيحِ فِي الرَّفْعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
النوع التَّاسِعُ: الْمُرْسَلُ
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَصُورَتُهُ الَّتِي لَا خِلَافَ فِيهَا حَدِيثُ التَّابِعِيِّ الْكَبِيرِ الَّذِي قَدْ أَدْرَكَ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ وَجَالَسَهُمْ، كَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ، ثُمَّ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَمْثَالِهِمَا، إِذَا قَالَ: ”قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”.
وَالْمَشْهُورُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ التَّابِعِينَ أَجْمَعِينَ فِي ذَلِكَ وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لَا يُعَدُّ إِرْسَالُ صِغَارِ التَّابِعِينَ مُرْسَلًا.
ثُمَّ إِنَّ الْحَاكِمَ يَخُصُّ الْمُرْسَلَ بِالتَّابِعِينَ وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ يُعَمِّمُونَ التَّابِعِينَ وَغَيْرَهُمْ.
(قُلْتُ): قَالَ أَبُو عَمْرٍو بْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ: الْمُرْسَلُ قَوْلُ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ ”قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”.
هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِتَصْوِيرِهِ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ حُجَّةً فِي الدِّينِ، فَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ الْأُصُولِ، وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا ”الْمُقَدِّمَاتِ”.
وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ ”أَنَّ الْمُرْسَلَ فِي أَصْلِ قَوْلِنَا وَقَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ” وَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ جَمَاعَةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ.
وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ سُقُوطِ الِاحْتِجَاجِ بِالْمُرْسَلِ وَالْحُكْمِ بِضَعْفِهِ، هُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ آرَاءُ جَمَاعَةِ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ وَنُقَّادِ الْأَثَرِ، وَتَدَاوَلُوهُ فِي تَصَانِيفِهِمْ.
قَالَ: وَالِاحْتِجَاجُ بِهِ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِمَا فِي طَائِفَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(قُلْتُ): وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فِي رِوَايَةٍ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَنَصَّ عَلَى أَنَّ مُرْسَلَاتِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ حِسَانٌ، قَالُوا لِأَنَّهُ تَتَبَّعَهَا فَوَجَدَهَا مُسْنَدَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ كَلَامَهُ فِي الرِّسَالَةِ ”أَنَّ مَرَاسِيلَ كِبَارِ التَّابِعِينَ حُجَّةٌ إِنْ جَاءَتْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَلَوْ مُرْسَلَةً، أَوْ اعْتَضَدَتْ بِقَوْلِ صَحَابِيٍّ أَوْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، أَوْ كَانَ الْمُرْسِلُ لَوْ سَمَّى لَا يُسَمِّي إِلَّا ثِقَةً، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُرْسَلُهُ حُجَّةً، وَلَا يَنْتَهِضُ إِلَى رُتْبَةِ الْمُتَّصِلِ”.
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَمَّا مَرَاسِيلُ غَيْرِ كِبَارِ التَّابِعِينَ فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَبِلَهَا.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَأَمَّا مَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَمْثَالِهِ، فَفِي حُكْمِ الْمَوْصُولِ; لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَرْوُونَ عَنْ الصَّحَابَةِ، وَكُلُّهُمْ عُدُولٌ، فَجَهَالَتُهُمْ لَا تَضُرُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(قُلْتُ): وَقَدْ حَكَى بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ عَلَى قَبُولِ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا وَيُحْكَى هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، لِاحْتِمَالِ تَلَقِّيهِمْ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ.
وَقَدْ وَقَعَ رِوَايَةُ الْأَكَابِرِ عَنْ الْأَصَاغِرِ، وَالْآبَاءِ عَنْ الْأَبْنَاءِ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
”تَنْبِيهٌ” وَالْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ (السُّنَنِ الْكَبِيرِ) وَغَيْرِهِ يُسَمِّي مَا رَوَاهُ التَّابِعِيُّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ”مُرْسَلًا” فَإِنْ كَانَ يَذْهَبُ مَعَ هَذَا إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ مُرْسَلُ الصَّحَابَةِ أَيْضًا لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
النوع الْعَاشِرُ: الْمُنْقَطِعُ
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَفِيهِ وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْسَلِ مَذَاهِبُ.
(قُلْتُ): فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ أَنْ يَسْقُطَ مِنَ الْإِسْنَادِ رَجُلٌ، أَوْ يُذْكَرُ فِيهِ رَجُلٌ مُبْهَمٌ.
وَمَثَّلَ ابْنُ الصَّلَاحِ لِلْأَوَّلِ بِمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا «إِنْ وَلَّيْتُمُوهَا أَبَا بَكْرٍ فَقَوِيٌّ أَمِينٌ» الْحَدِيثَ. قَالَ: فَفِيهِ انْقِطَاعٌ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ الثَّوْرِيِّ، إِنَّمَا رَوَاهُ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ الْجَنَدِيِّ عَنْهُ وَالثَّانِي: أَنَّ الثَّوْرِيَّ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَبِي إِسْحَاقَ، إِنَّمَا رَوَاهُ عَنْ شَرِيكٍ عَنْهُ.
وَمَثَّلَ الثَّانِيَ: بِمَا رَوَاهُ أَبُو الْعَلَاءِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ رَجُلَيْنِ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، حَدِيثُ ”اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ”.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُنْقَطِعُ مِثْلُ الْمُرْسَلِ، وَهُوَ كُلُّ مَا لَا يَتَّصِلُ إِسْنَادُهُ، غَيْرَ أَنَّ الْمُرْسَلَ أَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ عَلَى مَا رَوَاهُ التَّابِعِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا أَقْرَبُ، وَهُوَ الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ طَوَائِفُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِفَايَتِهِ.
قَالَ: وَحَكَى الْخَطِيبُ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْمُنْقَطِعَ مَا رُوِيَ عَنْ التَّابِعِيِّ فَمَنْ دُونَهُ، مَوْقُوفًا عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ وَهَذَا بَعِيدٌ غَرِيبٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
النوع الْحَادِي عَشَرَ: الْمُعْضَلُ
وَهُوَ مَا سَقَطَ مِنْ إِسْنَادِهِ اثْنَانِ فَصَاعِدًا، وَمِنْهُ مَا يُرْسِلُهُ تَابِعُ التَّابِعِيِّ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ ”قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ” وَقَدْ سَمَّاهُ الْخَطِيبُ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ ”مُرْسَلًا” وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُسَمِّي كُلَّ مَا لَا يَتَّصِلُ إِسْنَادُهُ ”مُرْسَلًا”.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَقَدْ رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ «وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا; فَيَقُولُ لَا، فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ» الْحَدِيثَ قَالَ فَقَدْ أَعْضَلَهُ الْأَعْمَشُ; لِأَنَّ الشَّعْبِيَّ يَرْوِيهِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فَقَدْ أَسْقَطَ مِنْهُ الْأَعْمَشُ أَنَسًا وَالنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَتَنَاسَبَ أَنْ يُسَمَّى مُعْضَلًا.
قَالَ: وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُطْلِقَ عَلَى الْإِسْنَادِ المُعَنْعَنِ اسْمَ ”الْإِرْسَالِ” أَوْ ”الِانْقِطَاعِ”.
قَالَ: وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ مَحْمُولٌ عَلَى السَّمَاعِ، إِذَا تَعَاصَرُوا، مَعَ الْبَرَاءَةِ مِنْ وَصْمَةِ التَّدْلِيسِ.
وَقَدْ ادَّعَى الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ الْمُقْرِئُ إِجْمَاعَ أَهْلِ النَّقْلِ عَلَى ذَلِكَ، وَكَادَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ أَيْضًا.
(قُلْتُ): وَهَذَا هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَشَنَّعَ فِي خُطْبَتِهِ عَلَى مَنْ يَشْتَرِطُ مَعَ الْمُعَاصَرَةِ اللُّقْيَ، حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ يُرِيدُ الْبُخَارِيَّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرِيدُ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ، فَإِنَّهُ يَشْتَرِطُ ذَلِكَ فِي أَصْلِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَأَمَّا الْبُخَارِيُّ فَإِنَّهُ لَا يَشْتَرِطُهُ فِي أَصْلِ الصِّحَّةِ، وَلَكِنْ الْتَزَمَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ ”الصَّحِيحِ” وَقَدْ اشْتَرَطَ أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ مَعَ اللِّقَاءِ طُولَ الصَّحَابَةِ وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ إِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ قُبِلَتْ الْعَنْعَنَةُ وَقَالَ الْقَابِسِيُّ إِنْ أَدْرَكَهُ إِدْرَاكًا بَيِّنًا.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِيمَا إِذَا قَالَ الرَّاوِي ”إِنَّ فُلَانًا قَالَ” هَلْ هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ ”عَنْ فُلَانٍ”، فَيَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الِاتِّصَالِ، حَتَّى يَثْبُتَ خِلَافُهُ؟ أَوْ يَكُونَ قَوْلُهُ ”إِنَّ فُلَانًا قَالَ” دُونَ قَوْلِهِ ”عَنْ فُلَانٍ”؟ كَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَعْقُوبُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو بَكْرٍ الْبَرْدِيجِيُّ، فَجَعَلُوا ”عَنْ” صِيغَةَ اتِّصَالٍ، وَقَوْلُهُ ”إِنَّ فُلَانًا قَالَ كَذَا” فِي حُكْمِ الِانْقِطَاعِ حَتَّى يَثْبُتَ خِلَافُهُ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي كَوْنِهِمَا مُتَّصِلَيْنِ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْإِسْنَادَ الْمُتَّصِلَ بِالصَّحَابِيِّ، سَوَاءٌ فِيهِ أَنْ يَقُولَ ”عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ”، أَوْ ”قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ” أَوْ ”سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ”.
وَبَحَثَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو هاهُنَا فِيمَا إِذَا أَسْنَدَ الرَّاوِي مَا أَرْسَلَهُ غَيْرُهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَدَحَ فِي عَدَالَتِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، إِذَا كَانَ الْمُخَالِفُ لَهُ أَحْفَظَ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ عَدَدًا، وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ بِالْكَثْرَةِ أَوْ الْحِفْظِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَ الْمُسْنَدَ مُطْلَقًا، إِذَا كَانَ عَدْلًا ضَابِطًا وَصَحَّحَهُ الْخَطِيبُ وَابْنُ الصَّلَاحِ، وَعَزَاهُ إِلَى الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ، وَحُكِيَ عَنْ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ.
النوع الثَّانِيَ عَشَرَ: الْمُدَلِّسُ
وَالتَّدْلِيسُ قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْوِيَ عَمَّنْ لَقِيَهُ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ، أَوْ عَمَّنْ عَاصَرَهُ وَلَمْ يَلْقَهُ، مُوهِمًا أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ.
وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُ ابْنِ خَشْرَمٍ: كُنَّا عِنْدَ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، فَقَالَ: ”قَالَ الزُّهْرِيُّ كَذَا” فَقِيلَ لَهُ: أَسَمِعْتَ مِنْهُ هَذَا؟ قَالَ: ”حَدَّثَنِي بِهِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْهُ”.
وَقَدْ كَرِهَ هَذَا الْقِسْمَ مِنْ التَّدْلِيسِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَذَمُّوهُ وَكَانَ شُعْبَةُ أَشَدَّ النَّاسِ إِنْكَارًا لِذَلِكَ، وَيُرْوَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لِأَنْ أَزْنِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُدَلِّسَ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَالزَّجْرِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: التَّدْلِيسُ أَخُو الْكَذِبِ.
وَمِنَ الْحُفَّاظِ مَنْ جَرَّحَ مَنْ عُرِفَ بِهَذَا التَّدْلِيسِ مِنْ الرُّوَاةِ، فَرَدَّ رِوَايَتَهُ مُطْلَقًا، وَإِنْ أَتَى بِلَفْظِ الِاتِّصَالِ، وَلَوْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ دَلَّسَ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَالصَّحِيحُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا صُرِّحَ فِيهِ بِالسَّمَاعِ، فَيُقْبَلُ، وَبَيْنَ مَا أُتِيَ فِيهِ بِلَفْظٍ مُحْتَمَلٍ، فَيُرَدُّ.
قَالَ: وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ، كَالسُّفْيَانَيْنِ وَالْأَعْمَشِ وَقَتَادَةَ وَهُشَيْمٍ وَغَيْرِهِمْ.
(قُلْتُ): وَغَايَةُ التَّدْلِيسِ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْإِرْسَالِ لِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ، وَهُوَ يَخْشَى أَنْ يُصَرِّحَ بِشَيْخِهِ فَيُرَدُّ مِنْ أَجْلِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ التَّدْلِيسِ فَهُوَ الْإِتْيَانُ بِاسْمِ الشَّيْخِ أَوْ كُنْيَتِهِ عَلَى خِلَافِ الْمَشْهُورِ بِهِ، تَعْمِيَةً لِأَمْرِهِ، وَتَوْعِيرًا لِلْوُقُوفِ عَلَى حَالِهِ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ، فَتَارَةً يُكْرَهُ، كَمَا إِذَا كَانَ أَصْغَرَ سِنًّا مِنْهُ، أَوْ نَازِلَ الرِّوَايَةِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَتَارَةً يَحْرُمُ، كَمَا إِذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ فَدَلَّسَهُ لِئَلَّا يُعْرَفَ حَالُهُ، أَوْ أَوْهَمَ أَنَّهُ رَجُلٌ آخَرُ مِنَ الثِّقَاتِ عَلَى وَفْقِ اسْمِهِ أَوْ كُنْيَتِهِ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ الْمُقْرِئُ عَنْ أَبِيهِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ فَقَالَ ”حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ”، وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ حَسَنٍ النَّقَّاشِ الْمُفَسِّرِ فَقَالَ ”حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَنَدٍ” نَسَبُهُ إِلَى جَدٍّ لَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو بْنُ الصَّلَاحِ: وَقَدْ كَانَ الْخَطِيبُ لَهَجَ بِهَذَا الْقِسْمِ فِي مُصَنَّفَاتِهِ.
النوع الثَّالِثَ عَشَرَ: الشَّاذُّ
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهُوَ أَنْ يَرْوِيَ الثِّقَةُ حَدِيثًا يُخَالِفُ مَا رَوَى النَّاسُ، وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَرْوِيَ مَا لَمْ يَرْوِ غَيْرُهُ.
وَقَدْ حَكَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْخَلِيلِيُّ الْقَزْوِينِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْحِجَازِيِّينَ أَيْضًا.
قَالَ: وَالَّذِي عَلَيْهِ حُفَّاظُ الْحَدِيثِ أَنَّ الشَّاذَّ مَا لَيْسَ لَهُ إِلَّا إِسْنَادٌ وَاحِدٌ، يَشِذُّ بِهِ ثِقَةٌ أَوْ غَيْرُ ثِقَةٍ، فَيُتَوَقَّفُ فِيمَا شَذَّ بِهِ الثِّقَةُ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَيُرَدُّ مَا شَذَّ بِهِ غَيْرُ الثِّقَةِ.
وَقَالَ الْحَاكِمُ النَّيْسَابُورِيُّ: هُوَ الَّذِي يَنْفَرِدُ بِهِ الثِّقَةُ، وَلَيْسَ لَهُ مُتَابِعٌ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَيُشْكِلُ عَلَى هَذَا حَدِيثُ «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» فَإِنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ عُمَرُ، وَعَنْهُ عَلْقَمَةُ، وَعَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، وَعَنْهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ.
(قُلْتُ): ثُمَّ تَوَاتَرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ هَذَا، فَيُقَالُ إِنَّهُ رَوَاهُ عَنْهُ نَحْوٌ مِنْ مِائَتَيْنِ، وَقِيلَ أَزْيَدُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ ابْنُ مَنْدَهْ مُتَابَعَاتٍ غَرَائِبَ، وَلَا تَصِحُّ، كَمَا بَسَطْنَاهُ فِي مُسْنَدِ عُمَرَ، وَفِي الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ.
قَالَ: وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ”أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ”.
وَتَفَرَّدَ مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ، وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ».
وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فَقَطْ.
وَقَدْ قَالَ مُسْلِمٌ لِلزُّهْرِيِّ: تِسْعُونَ حَرْفًا لَا يَرْوِيهَا غَيْرُهُ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُسْلِمٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ، مِنْ تَفَرُّدِهِ بِأَشْيَاءَ لَا يَرْوِيهَا غَيْرُهُ يُشَارِكُهُ فِي نَظِيرِهَا جَمَاعَةٌ مِنْ الرُّوَاةِ.
فَإِذَنْ الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَوَّلًا هُوَ الصَّوَابُ أَنَّهُ إِذَا رَوَى الثِّقَةُ شَيْئًا قَدْ خَالَفَهُ فِيهِ النَّاسُ فَهُوَ الشَّاذُّ، يَعْنِي الْمَرْدُودَ، وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَرْوِيَ الثِّقَةُ مَا لَمْ يَرْوِ غَيْرُهُ، بَلْ هُوَ مَقْبُولٌ إِذَا كَانَ عَدْلًا ضَابِطًا حَافِظًا.
فَإِنَّ هَذَا لَوْ رُدَّ لَرُدَّتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْ هَذَا النَّمَطِ، وَتَعَطَّلَتْ كَثِيرٌ مِنَ الْمَسَائِلِ عَنْ الدَّلَائِلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُنْفَرِدُ بِهِ غَيْرَ حَافِظٍ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ عَدْلٌ ضَابِطٌ فَحَدِيثُهُ حَسَنٌ فَإِنْ فَقَدَ ذَلِكَ فَمَرْدُودٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
النوع الرَّابِعَ عَشَرَ: الْمُنْكَرُ
وَهُوَ كَالشَّاذِّ إِنْ خَالَفَ رَاوِيهِ الثِّقَاتِ فَمُنْكَرٌ مَرْدُودٌ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا ضَابِطًا، وَإِنْ لَمْ يُخَالِفْ، فَمُنْكَرٌ مَرْدُودٌ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ عَدْلٌ ضَابِطٌ حَافِظٌ قُبِلَ شَرْعًا، وَلَا يُقَالُ لَهُ ”مُنْكَرٌ”، وَإِنْ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ لُغَةً.
النوع الْخَامِسَ عَشَرَ: فِي الِاعْتِبَارَاتِ وَالْمُتَابَعَاتِ وَالشَّوَاهِدِ
مِثَالُهُ:
أَنْ يَرْوِيَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا، فَإِنْ رَوَاهُ غَيْرُ حَمَّادٍ عَنْ أَيُّوبَ أَوْ غَيْرُ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَوْ غَيْرُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَوْ غَيْرُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهَذِهِ مُتَابَعَاتٌ.
فَإِنَّ مَا رُوِيَ مَعْنَاهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ سُمِّيَ شَاهِدًا لِمَعْنَاهُ.
وَإِنْ لَمْ يُرْوَ بِمَعْنَاهُ حَدِيثٌ آخَرُ فَهُوَ فَرْدٌ مِنَ الْأَفْرَادِ.
وَيُغْتَفَرُ فِي بَابِ ” الشَّوَاهِدِ وَالْمُتَابَعَاتِ ” مِنْ الرِّوَايَةِ عَنْ الضَّعِيفِ الْقَرِيبِ الضَّعْفُ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الْأُصُولِ، كَمَا يَقَعُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِثْلُ ذَلِكَ وَلِهَذَا يَقُولُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي بَعْضِ الضُّعَفَاءِ ”يَصْلُحُ لِلِاعْتِبَارِ”، أَوْ ”لَا يَصْلُحُ أَنْ يُعْتَبَرَ بِهِ” وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
النوع السَّادِسَ عَشَرَ: فِي الْأَفْرَادِ
وَهُوَ أَقْسَامٌ تَارَةً يَنْفَرِدُ بِهِ الرَّاوِي عَنْ شَيْخِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ، أَوْ يَنْفَرِدُ بِهِ أَهْلُ قُطْرٍ، كَمَا يُقَالُ ”تَفَرَّدَ بِهِ أَهْلُ الشَّامِ” أَوْ ”الْعِرَاقِ” أَوْ ”الْحِجَازِ” أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ يَتَفَرَّدُ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَيَجْتَمِعُ فِيهِ الْوَصْفَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلِلْحَافِظِ الدَّارَقُطْنِيِّ كِتَابٌ فِي الْأَفْرَادِ فِي مِائَةِ جُزْءٍ، وَلَمْ يُسْبَقْ إِلَى نَظِيرِهِ وَقَدْ جَمَعَهُ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ فِي أَطْرَافٍ رَتَّبَهُ فِيهَا.
النوع السَّابِعَ عَشَرَ: فِي زِيَادَةِ الثِّقَةِ
إِذَا تَفَرَّدَ الرَّاوِي بِزِيَادَةٍ فِي الْحَدِيثِ عَنْ بَقِيَّةِ الرُّوَاةِ عَنْ شَيْخٍ لَهُمْ، وَهَذَا الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِزِيَادَةِ الثِّقَةِ، فَهَلْ هِيَ مَقْبُولَةٌ أَمْ لَا؟ فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ فَحَكَى الْخَطِيبُ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ قَبُولَهَا، وَرَدَّهَا أَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ إِنْ اتَّحَدَ مَجْلِسُ السَّمَاعِ لَمْ تُقْبَلْ، وَإِنْ تَعَدَّدَ قُبِلَتْ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ تُقْبَلُ الزِّيَادَةُ إِذَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ الرَّاوِي، بِخِلَافِ مَا إِذَا نَشِطَ فَرَوَاهَا تَارَةً وَأَسْقَطَهَا أُخْرَى.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً فِي الْحُكْمِ لِمَا رَوَاهُ الْبَاقُونَ لَمْ تُقْبَلْ، وَإِلَّا قُبِلَتْ، كَمَا لَوْ تَفَرَّدَ بِالْحَدِيثِ كُلِّهِ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ تَفَرُّدُهُ بِهِ إِذَا كَانَ ثِقَةً ضَابِطًا أَوْ حَافِظًا وَقَدْ حَكَى الْخَطِيبُ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ، وَقَدْ مَثَّلَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو زِيَادَةَ الثِّقَةِ بِحَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ، عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَوْلُهُ ”مِنَ الْمُسْلِمِينَ” مِنْ زِيَادَاتِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ وَقَدْ زَعَمَ التِّرْمِذِيُّ أَنَّ مَالِكًا تَفَرَّدَ بِهَا، وَسَكَتَ أَبُو عَمْرٍو عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَتَفَرَّدْ بِهَا مَالِكٌ فَقَدْ رَوَاهَا مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ نَافِعٍ، كَمَا رَوَاهَا مَالِكٌ، وَكَذَا رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ، كَمَالِكٍ.
قَالَ وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ حَدِيثُ: «جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» تَفَرَّدَ أَبُو مَالِكٍ سَعْدُ بْنُ طَارِقٍ الْأَشْجَعِيُّ بِزِيَادَةِ ”وَتُرْبَتُهَا طَهُورًا” عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَأَبُو عَوَانَةَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ فِي صِحَاحِهِمْ مِنْ حَدِيثِهِ. وَذَكَرَ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْوَصْلِ وَالْإِرْسَالِ، كَالْخِلَافِ فِي قَبُولِ الْزِّيَادَةِ الثِّقَةِ
النوع الثَّامِنَ عَشَرَ: الْمُعَلَّلُ مِنَ الْحَدِيثِ
وَهُوَ فَنٌّ خَفِيَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ حُفَّاظِهِمْ: مَعْرِفَتُنَا بِهَذَا كِهَانَةٌ عِنْدَ الْجَاهِلِ.
وَإِنَّمَا يَهْتَدِي إِلَى تَحْقِيقِ هَذَا الْفَنِّ الْجَهَابِذَةُ النُّقَّادُ مِنْهُمْ، يُمَيِّزُونَ بَيْنَ صَحِيحِ الْحَدِيثِ وَسَقِيمِهِ، وَمُعْوَجِّهِ وَمُسْتَقِيمِهِ، كَمَا يُمَيِّزُ الصَّيْرَفِيُّ الْبَصِيرُ بِصِنَاعَتِهِ بَيْنَ الْجِيَادِ وَالزُّيُوفِ، وَالدَّنَانِيرِ وَالْفُلُوسِ فَكَمَا لَا يَتَمَارَى هَذَا، كَذَلِكَ يَقْطَعُ ذَاكَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِفُ، بِحَسَبِ مَرَاتِبِ عُلُومِهِمْ وَحِذْقَتِهِمْ وَاطِّلَاعِهِمْ عَلَى طُرُقِ الْحَدِيثِ، وَذَوْقِهِمْ حَلَاوَةَ عِبَارَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي لَا يُشْبِهُهَا غَيْرُهَا مِنْ أَلْفَاظِ النَّاسِ.
فَمِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ مَا عَلَيْهِ أَنْوَارُ النُّبُوَّةِ، وَمِنْهَا مَا وَقَعَ فِيهِ تَغْيِيرُ لَفْظٍ أَوْ زِيَادَةٌ بَاطِلَةٌ أَوْ مُجَازَفَةٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، يُدْرِكُهَا الْبَصِيرُ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ.
وَقَدْ يَكُونُ التَّعْلِيلُ مُسْتَفَادًا مِنَ الْإِسْنَادِ، وَبَسْطُ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ يَطُولُ جِدًّا، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ بِالْعَمَلِ.
وَمِنْ أَحْسَنِ كِتَابٍ وُضِعَ فِي ذَلِكَ وَأَجَلِّهِ وَأَفْحَلِهِ (كِتَابُ الْعِلَلِ) لِعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ وَسَائِرِ الْمُحَدِّثِينَ بَعْدَهُ، فِي هَذَا الشَّأْنِ. عَلَى الْخُصُوصِ وَكَذَلِكَ (كِتَابُ الْعِلَلِ) لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَهُوَ مُرَتَّبٌ عَلَى أَبْوَابِ الْفِقْهِ، و(كِتَابُِ الْعِلَلِ) لِلْخَلَّالِ وَيَقَعُ فِي مُسْنَدِ الْحَافِظِ أَبِي بَكْرٍ الْبَزَّارِ مِنَ التَّعَالِيلِ مَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَانِيدِ.
وَقَدْ جَمَعَ أَزِمَّةَ مَا ذَكَرْنَاهُ كُلَّهُ الْحَافِظُ الْكَبِيرُ أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِهِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ كِتَابٍ، بَلْ أَجَلُّ مَا رَأَيْنَاهُ وُضِعَ فِي هَذَا الْفَنِّ، لَمْ يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهِ، وَقَدْ أَعْجَزَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَأْتِيَ (بَعْدَهُ)، فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَلَكِنْ يَعُوزُهُ شَيْءٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ يُرَتَّبَ عَلَى الْأَبْوَابِ، لِيَقْرُبَ تَنَاوُلُهُ لِلطُّلَّابِ، أَوْ أَنْ تَكُونَ أَسْمَاءُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ اشْتَمَلَ عَلَيْهِمْ مُرَتَّبِينَ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، لِيَسْهُلَ الْأَخْذُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ مُبَدَّدٌ جِدًّا، لَا يَكَادُ يَهْتَدِي الْإِنْسَانُ إِلَى مَطْلُوبِهِ مِنْهُ بِسُهُولَةٍ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ
النوع التَّاسِعَ عَشَرَ: الْمُضْطَرِبُ
وَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَ الرُّوَاةُ فِيهِ عَلَى شَيْخٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ مُتَعَادِلَةٍ لَا يَتَرَجَّحُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَقَدْ يَكُونُ تَارَةً فِي الْإِسْنَادِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَتْنِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
النوع الْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ الْمُدْرَجِ
وَهُوَ أَنْ تُزَادَ لَفْظَةٌ فِي مَتْنِ الْحَدِيثِ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، فَيَحْسَبُهَا مَنْ يَسْمَعُهَا مَرْفُوعَةً فِي الْحَدِيثِ، فَيَرْوِيهَا كَذَلِكَ وَقَدْ وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ وَالْمَسَانِيدِ وَغَيْرِهَا وَقَدْ لَا يَقَعُ الْإِدْرَاجُ فِي الْإِسْنَادِ، وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ.
وَقَدْ صَنَّفَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ فِي ذَلِكَ كِتَابًا حَافِلًا سَمَّاهُ (فَصْلُ الْوَصْلِ، لِمَا أُدْرِجَ فِي النَّقْلِ) وَهُوَ مُفِيدٌ جِدًّا
وَهُوَ أَنْ تُزَادَ لَفْظَةٌ فِي مَتْنِ الْحَدِيثِ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، فَيَحْسَبُهَا مَنْ يَسْمَعُهَا مَرْفُوعَةً فِي الْحَدِيثِ، فَيَرْوِيهَا كَذَلِكَ وَقَدْ وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ وَالْمَسَانِيدِ وَغَيْرِهَا وَقَدْ لَا يَقَعُ الْإِدْرَاجُ فِي الْإِسْنَادِ، وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ.
وَقَدْ صَنَّفَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ فِي ذَلِكَ كِتَابًا حَافِلًا سَمَّاهُ (فَصْلَ الْوَصْلِ، لِمَا أُدْرِجَ فِي النَّقْلِ) وَهُوَ مُفِيدٌ جِدًّا.
النوع الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ الْمَوْضُوعِ الْمُخْتَلَقِ الْمَصْنُوعِ
وَعَلَى ذَلِكَ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا إِقْرَارُ وَضْعِهِ عَلَى نَفْسِهِ، قَالًا أَوْ حَالًا، وَمِنْ ذَلِكَ رَكَاكَةُ أَلْفَاظِهِ، وَفَسَادُ مَعْنَاهُ، أَوْ مُجَازَفَةٌ فَاحِشَةٌ، أَوْ مُخَالَفَةٌ لِمَا ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فَلَا تَجُوزُ رِوَايَتُهُ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ، إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْقَدْحِ فِيهِ، لِيَحْذَرَهُ مَنْ يَغْتَرُّ بِهِ مِنَ الْجَهَلَةِ وَالْعَوَامِّ والرِّعَاعِ.
وَالْوَاضِعُونَ أَقْسَامٌ كَثِيرَةٌ
مِنْهُمْ زَنَادِقَةٌ وَمِنْهُمْ مُتَعَبِّدُونَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، يَضَعُونَ أَحَادِيثَ فِيهَا تَرْغِيبٌ وَتَرْهِيبٌ، وَفِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، لِيُعْمَلَ بِهَا. وَهَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ مِنَ الْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُمْ مِنْ أَشَرِّ مَنْ فَعَلَ هَذَا لِمَا يَحْصُلُ بِضَرَرِهِمْ مِنَ الْغُرُورِ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ صَلَاحَهُمْ، فَيَظُنُّ صِدْقَهُمْ، وَهُمْ شَرٌّ مِنْ كُلِّ كَذَّابٍ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَقَدْ انْتَقَدَ الْأَئِمَّةُ كُلَّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ مِنْ ذَلِكَ، وَسَطَرُوهُ عَلَيْهِمْ فِي زُبُرِهِمْ، عَارًا عَلَى وَاضِعِي ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَنَارًا وَشَنَارًا فِي الْآخِرَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَذِبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْهُ.
قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةِ نَحْنُ مَا كَذَبْنَا عَلَيْهِ، إِنَّمَا كَذَبْنَا لَهُ! وَهَذَا مِنْ كَمَالِ جَهْلِهِمْ، وَقِلَّةِ عَقْلِهِمْ، وَكَثْرَةِ فُجُورِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ، فَإِنَّهُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَا يَحْتَاجُ فِي كَمَالِ شَرِيعَتِهِ وَفَضْلِهَا إِلَى غَيْرِهِ.
وَقَدْ صَنَّفَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ كِتَابًا حَافِلًا فِي الْمَوْضُوعَاتِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَدْخَلَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَخَرَجَ عَنْهُ مَا كَانَ يَلْزَمُهُ ذِكْرُهُ، فَسَقَطَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ إِنْكَارُ وُقُوعِ الْوَضْعِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهَذَا الْقَائِلُ إِمَّا أَنَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ أَصْلًا، أَوْ أَنَّهُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنْ مُمَارَسَةِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُهُمْ الرَّدَّ عَلَيْهِ، بِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «سَيُكْذَبُ عَلَيَّ» فَإِنْ كَانَ هَذَا الْخَبَرُ صَحِيحًا، فَسَيَقَعُ الْكَذِبُ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ كَانَ كَذِبًا فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ وُقُوعُهُ إِلَى الْآنَ; إِذْ بَقِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَزْمَانٌ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِيهَا مَا ذُكِرَ.
وَهَذَا الْقَوْلُ وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ وَالْجَوَابَ عَنْهُ مِنْ أَضْعَفِ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وحُفَّاظِهِمْ، الَّذِينَ كَانُوا يَتَضَلَّعُونَ مِنْ حِفْظِ الصِّحَاحِ، وَيَحْفَظُونَ أَمْثَالَهَا وَأَضْعَافَهَا مِنَ الْمَكْذُوبَاتِ، خَشْيَةَ أَنْ تَرُوجَ عَلَيْهِمْ، أَوْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ- رَحِمَهُمْ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُمْ.
النوع الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: الْمَقْلُوبُ
وَقَدْ يَكُونُ فِي الْإِسْنَادِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ.
فَالْأَوَّلُ: كَمَا رَكَّبَ مَهَرَةُ مُحَدِّثِي بَغْدَادَ لِلْبُخَارِيِّ، حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِمْ، إِسْنَادَ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَتْنٍ آخَرَ، وَرَكَّبُوا مَتْنَ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى إِسْنَادٍ آخَرَ، وَقَلَبُوا عَلَيْهِ مَا هُوَ مِنْ حَدِيثِ سَالِمٍ عَنْ نَافِعٍ، وَمَا هُوَ مِنْ حَدِيثِ نَافِعٍ عَنْ سَالِمٍ، وَهُوَ مِنَ الْقَبِيلِ الثَّانِي وَصَنَعُوا ذَلِكَ فِي نَحْوِ مِائَةِ حَدِيثٍ أَوْ أَزْيَدَ، فَلَمَّا قَرَأَهَا رَدَّ كُلَّ حَدِيثٍ إِلَى إِسْنَادِهِ، وَكُلَّ إِسْنَادٍ إِلَى مَتْنِهِ، وَلَمْ يَرُجْ عَلَيْهِ مَوْضِعٌ وَاحِدٌ مِمَّا قَلَبُوهُ وَرَكَّبُوهُ، فَعَظُمَ عِنْدَهُمْ جِدًّا، وَعَرَفُوا مَنْزِلَتَهُ مِنْ هَذَا الشَّأْنِ- فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَأَدْخَلَهُ الْجِنَانَ.
وَقَدْ نَبَّهَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو هَهُنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْحُكْمِ بِضَعْفِ سَنَدِ الْحَدِيثِ الْمُعَيَّنِ الْحُكْمُ بِضَعْفِهِ فِي نَفْسِهِ; إِذْ قَدْ يَكُونُ لَهُ إِسْنَادٌ آخَرُ، إِلَّا أَنْ يَنُصَّ إِمَامٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرْوَى إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. (قُلْتُ): يَكْفِي فِي الْمُنَاظَرَةِ تَضْعِيفُ الطَّرِيقِ الَّتِي أَبْدَاهَا الْمُنَاظِرُ، وَيَنْقَطِعُ; إِذْ الْأَصْلُ عَدَمُ مَا سِوَاهَا، حَتَّى يَثْبُتَ بِطَرِيقٍ أُخْرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ وَيَجُوزُ رِوَايَةُ مَا عَدَا الْمَوْضُوعِ فِي بَابِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالْقَصَصِ وَالْمَوَاعِظِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، إِلَّا فِي صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَفِي بَابِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ.
قَالَ وَمِمَّنْ يُرَخِّصُ فِي رِوَايَةِ الضَّعِيفِ- فِيمَا ذَكَرْنَاهُ- ابْنُ مَهْدِيٍّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
قَالَ وَإِذَا عَزَوْتَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ إِسْنَادٍ فَلَا تَقُلْ ”قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا وَكَذَا”، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْجَازِمَةِ، بَلْ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ، وَكَذَا فِيمَا يُشَكُّ فِي صِحَّتِهِ أَيْضًا.
النوع الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَمَنْ لَا تُقْبَلُ وَبَيَانُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ
الْمَقْبُولُ: الثِّقَةُ الضَّابِطُ لِمَا يَرْوِيهِ وَهُوَ الْمُسْلِمُ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ، سَالِمًا مِنْ أَسْبَابِ الْفِسْقِ وَخَوَارِمِ الْمُرُوءَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ مُتَيَقِّظًا غَيْرَ مُغَفَّلٍ، حَافِظًا إِنْ حَدَّثَ (مِنْ حِفْظِهِ)، فَاهِمًا إِنْ حَدَّثَ عَلَى الْمَعْنَى، فَإِنْ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِمَّا ذَكَرْنَا رُدَّتْ رِوَايَتُهُ.
وَتَثْبُتُ عَدَالَةُ الرَّاوِي بِاشْتِهَارِهِ بِالْخَيْرِ وَالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ عَلَيْهِ، أَوْ بِتَعْدِيلِ الْأَئِمَّةِ، أَوْ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ لَهُ، أَوْ وَاحِدٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَوْ بِرِوَايَتِهِ عَنْهُ فِي قَوْلٍ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَتَوَسَّعَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، فَقَالَ: كُلُّ حَامِلِ عِلْمٍ. مَعْرُوفٌ الْعِنَايَةُ بِهِ، فَهُوَ عَدْلٌ، مَحْمُولٌ أَمْرُهُ عَلَى الْعَدَالَةِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ جُرْحُهُ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ» قَالَ: وَفِيمَا قَالَهُ اتِّسَاعٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(قُلْتُ): لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْحَدِيثِ لَكَانَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ قَوِيًّا، وَلَكِنْ فِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ قَوِيٌّ، وَالْأَغْلَبُ عَدَمُ صِحَّتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيُعْرَفُ ضَبْطُ الرَّاوِي بِمُوَافَقَةِ الثِّقَاتِ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى، وَعَكْسُهُ عَكْسُهُ، وَالتَّعْدِيلُ مَقْبُولٌ، ذُكِرَ السَّبَبُ (أَوْ لَمْ يُذْكَرْ); لِأَنَّ تَعْدَادَهُ يَطُولُ، فَقُبِلَ إِطْلَاقُهُ بِخِلَافِ الْجَرْحِ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ إِلَّا مُفَسَّرًا، لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْأَسْبَابِ الْمُفَسِّقَةِ، فَقَدْ يَعْتَقِدُ الْجَارِحُ شَيْئًا مُفَسِّقًا، فَيُضَعِّفُهُ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ، فَلِهَذَا اشْتُرِطَ بَيَانُ السَّبَبِ فِي الْجَرْحِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو: وَأَكْثَرُ مَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ ”فُلَانٌ ضَعِيفٌ”، أَوْ ”مَتْرُوكٌ”، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ نَكْتَفِ بِهِ انْسَدَّ بَابٌ كَبِيرٌ فِي ذَلِكَ.
وَأَجَابَ بِأَنَّا إِذَا لَمْ نَكْتَفِ بِهِ تَوَقَّفْنَا فِي أَمْرِهِ، لِحُصُولِ الرِّيبَةِ عِنْدَنَا بِذَلِكَ.
(قُلْتُ): أَمَّا كَلَامُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الْمُنْتَصِبِينَ لِهَذَا الشَّأْنِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ مُسَلَّمًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ أَسْبَابٍ، وَذَلِكَ لِلْعِلْمِ بِمَعْرِفَتِهِمْ، وَاطِّلَاعِهِمْ وَاضْطِلَاعِهِمْ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَاتِّصَافِهِمْ بِالْإِنْصَافِ وَالدِّيَانَةِ وَالْخِبْرَةِ وَالنُّصْحِ، لَا سِيَّمَا إِذَا أَطْبَقُوا عَلَى تَضْعِيفِ الرَّجُلِ، أَوْ كَوْنِهِ مَتْرُوكًا، أَوْ كَذَّابًا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
فَالْمُحَدِّثُ الْمَاهِرُ لَا يَتَخَالَجُهُ فِي مِثْلِ هَذَا وَقْفَةٌ فِي مُوَافَقَتِهِمْ، لِصِدْقِهِمْ وَأَمَانَتِهِمْ وَنُصْحِهِمْ، وَلِهَذَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِ عَلَى الْأَحَادِيثِ ”لَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ”، وَيَرُدُّهُ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا إِذَا تَعَارَضَ جَرْحٌ وَتَعْدِيلٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَرْحُ حِينَئِذٍ مُفَسَّرًا وَهَلْ هُوَ الْمُقَدَّمُ؟ أَوْ التَّرْجِيحُ بِالْكَثْرَةِ أَوْ الْأَحْفَظِ؟ فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُرُوعِهِ وَعِلْمِ الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَكْفِي قَوْلُ الْوَاحِدِ فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ عَلَى الصَّحِيحِ وَأَمَّا رِوَايَةُ الثِّقَةِ عَنْ شَيْخٍ فَهَلْ يَتَضَمَّنُ تَعْدِيلُهُ ذَلِكَ الشَّيْخَ أَمْ لَا؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.. (ثَالِثُهَا): إِنْ كَانَ لَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ فَتَوْثِيقٌ، وَإِلَّا فَلَا وَالصَّحِيحُ (أَنَّهُ) لَا يَكُونُ تَوْثِيقًا لَهُ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ مِمَّنْ يَنُصُّ عَلَى عَدَالَةِ شُيُوخِهِ وَلَوْ قَالَ ”حَدَّثَنِي الثِّقَةُ”، لَا يَكُونُ ذَلِكَ تَوْثِيقًا لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ ثِقَةً عِنْدَهُ، لَا عِنْدَ غَيْرِهِ، وَهَذَا وَاضِحٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَالَ وَكَذَلِكَ فُتْيَا الْعَالِمِ أَوْ عَمَلُهُ عَلَى وَفْقِ حَدِيثٍ، لَا يَسْتَلْزِمُ تَصْحِيحَهُ لَهُ.
(قُلْتُ): وَفِي هَذَا نَظَرٌ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَابِ غَيْرُ ذَلِكَ الْحَدِيثِ، أَوْ تَعَرَّضَ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ فِي فُتْيَاهُ أَوْ حُكْمِهِ، أَوْ اسْتَشْهَدَ بِهِ عِنْدَ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ.
قَالَ ابْنُ الْحَاجِبَ وَحُكْمُ الْحَاكِمِ الْمُشْتَرِطِ الْعَدَالَةَ تَعْدِيلٌِ بِاتِّفَاقٍ.
وَأَمَّا إِعْرَاضُ الْعَالِمِ عَنِ الْحَدِيثِ الْمُعَيَّنِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ، فَلَيْسَ قَادِحًا فِي الْحَدِيثِ بِاتِّفَاقٍ; لِأَنَّهُ قَدْ يَعْدِلُ عَنْهُ لِمُعَارِضٍ أَرْجَحَ عِنْدَهُ، مَعَ اعْتِقَادِ صِحَّتِهِ.
”مَسْأَلَةٌ” مَجْهُولُ الْعَدَالَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ وَمَنْ جُهِلَتْ عَدَالَتُهُ بَاطِنًا، وَلَكِنَّهُ عُدِّلَ فِي الظَّاهِرِ، وَهُوَ الْمَسْتُورُ فَقَدْ قَالَ بِقَبُولِهِ بَعْضُ الشَّافِعِيِّينَ، وَرَجَّحَ ذَلِكَ سَلِيمُ بْنُ أَيُّوبَ الْفَقِيهُ، وَوَافَقَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَقَدْ حَرَّرْتُ الْبَحْثَ فِي ذَلِكَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَأَمَّا الْمُبْهَمُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ أَوْ مَنْ سُمِّيَ وَلَا تُعْرَفُ عَيْنُهُ، فَهَذَا مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ رِوَايَتَهُ أَحَدٌ عَلِمْنَاهُ وَلَكِنَّهُ إِذَا كَانَ فِي عَصْرِ التَّابِعِينَ وَالْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْخَيْرِ، فَإِنَّهُ يُسْتَأْنَسُ بِرِوَايَتِهِ، وَيُسْتَضَاءُ بِهَا فِي مَوَاطِنَ وَقَدْ وَقَعَ فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَثِيرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَغَيْرُهُ وَتَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ عَنِ الرَّاوِي بِمَعْرِفَةِ الْعُلَمَاءِ لَهُ، أَوْ بِرِوَايَةِ عَدْلَيْنِ عَنْهُ.
قَالَ الْخَطِيبُ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْعَدَالَةِ بِرِوَايَتِهِمَا عَنْهُ وَعَلَى هَذَا النَّمَطِ مَشَى ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ، بِأَنْ حَكَمَ لَهُ بِالْعَدَالَةِ بِمُجَرَّدِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالُوا: فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ سِوَى وَاحِدٍ، مِثْلُ عَمْرٍو ذِي مُرٍّ، وَجَبَّارٍ الطَّائِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ ذِي حُدَّانَ، تَفَرَّدَ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُمْ إِسْحَاقُ السَّبِيعيُّ، وجُرَيُّ بْنُ كُلَيْبٍ، تَفَرَّدَ عَنْهُ قَتَادَةُ، قَالَ الْخَطِيبُ وَالْهَزْهَازُ بْنُ مَيْزَنَ، تَفَرَّدَ عَنْهُ الشَّعْبِيُّ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَرَوَى عَنْهُ الثَّوْرِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ لِمِرْدَاسٍ الْأَسْلَمِيِّ، وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ سِوَى قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، وَمُسْلِمٌ لِرَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ، وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ سِوَى أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ وَذَلِكَ مَصِيرٌ مِنْهُمَا إِلَى ارْتِفَاعِ الْجَهَالَةِ بِرِوَايَةِ وَاحِدٍ وَذَلِكَ مُتَّجَهٌ، كَالْخِلَافِ فِي الِاكْتِفَاءِ بِوَاحِدٍ فِي التَّعْدِيلِ.
(قُلْتُ): تَوْجِيهٌ جَيِّدٌ لَكِنْ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ إِنَّمَا اكْتَفَيَا فِي ذَلِكَ بِرِوَايَةِ الْوَاحِدِ فَقَطْ; لِأَنَّ هَذَيْنِ صَحَابِيَّانِ، وَجَهَالَةُ الصَّحَابِيِّ لَا تَضُرُّ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
”مَسْأَلَةٌ” الْمُبْتَدِعُ إِنْ كَفَرَ بِبِدْعَتِهِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي رَدِّ رِوَايَتِهِ وَإِذَا لَمْ يَكْفُرْ، فَإِنْ اسْتَحَلَّ الْكَذِبَ رُدَّتْ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِلَّ الْكَذِبَ، فَهَلْ يُقْبَلُ أَوْ لَا؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ كَوْنِهِ دَاعِيَةً أَوْ غَيْرَ دَاعِيَةٍ؟ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ قَدِيمٌ وَحَدِيثٌ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ الدَّاعِيَةِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ حَكَى ابْنُ حِبَّانَ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقَ، فَقَالَ: لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا قَاطِبَةً، لَا أَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِيهِ خِلَافًا.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَأَوْلَاهَا وَالْقَوْلُ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا بَعِيدٌ، مُبَاعِدٌ لِلشَّائِعِ عَنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ كُتُبَهُمْ طَافِحَةٌ (بِالرِّوَايَةِ) عَنِ الْمُبْتَدَعَةِ غَيْرِ الدُّعَاةِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِهِمْ فِي الشَّوَاهِدِ وَالْأُصُولِ كَثِيرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(قُلْتُ): وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَقْبَلُ شَهَادَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إِلَّا الْخَطَّابِيَّةَ مِنَ الرَّافِضَةِ; لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ بِالزُّورِ لِمُوَافِقِيهِمْ فَلَمْ يُفَرِّقْ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا النَّصِّ بَيْنَ الدَّاعِيَةِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ مَا الْفَرْقُ فِي الْمَعْنَى بَيْنَهُمَا؟ وَهَذَا الْبُخَارِيُّ قَدْ خَرَّجَ لِعِمْرَانَ بْنِ حَطَّانَ الْخَارِجِيِّ مَادِحِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُلْجِمٍ قَاتِلِ عَلِيٍّ، وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الدُّعَاةِ إِلَى الْبِدْعَةِ! وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ
التَّائِبُ مِنَ الْكَذِبِ فِي حَدِيثِ النَّاسِ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ خِلَافًا لِأَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ قَدْ كَذَبَ فِي الْحَدِيثِ مُتَعَمِّدًا، فَنَقَلَ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي بَكْرٍ الْحُمَيْدِيِّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ أَبَدًا، وَقَالَ أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ مَنْ كَذَبَ فِي خَبَرٍ وَاحِدٍ وَجَبَ إِسْقَاطُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِهِ.
(قُلْتُ): وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ كَفَّرَ مُتَعَمِّدَ الْكَذِبِ فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَتِّمُ قَتْلَهُ، وَقَدْ حَرَّرْتُ ذَلِكَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ.
وَأَمَّا مَنْ غَلِطَ فِي حَدِيثٍ فَبُيِّنَ لَهُ الصَّوَابُ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالْحُمَيْدِيُّ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ أَيْضًا، وَتَوَسَّطَ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ إِنْ كَانَ عَدَمُ رُجُوعِهِ إِلَى الصَّوَابِ عِنَادًا، فَهَذَا يَلْتَحِقُ بِمَنْ كَذَبَ عَمْدًا، وَإِلَّا فَلَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْ هَاهُنَا يَنْبَغِي التَّحَرُّزُ مِنَ الْكَذِبِ كُلَّمَا أَمْكَنَ، فَلَا يُحَدِّثُ إِلَّا مِنْ أَصْلٍ مُعْتَمَدٍ، وَيَجْتَنِبُ الشَّوَاذَّ وَالْمُنْكَرَاتِ، فَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ مَنْ تَتَبَّعَ غَرَائِبَ الْحَدِيثِ كَذَبَ، وَفِي الْأَثَرِ ”كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ”.
مَسْأَلَةٌ
إِذَا حَدَّثَ ثِقَةٌ عَنْ ثِقَةٍ بِحَدِيثٍ، فَأَنْكَرَ الشَّيْخُ سَمَاعَهُ لِذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ، فَاخْتَارَ ابْنُ الصَّلَاحِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ عَنْهُ، لِجَزْمِهِ بِإِنْكَارِهِ، وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي عَدَالَةِ الرَّاوِي عَنْهُ فِيمَا عَدَاهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قَالَ لَا أَعْرِفُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ سَمَاعِي، فَإِنَّهُ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ عَنْهُ وَأَمَّا إِذَا نَسِيَهُ، فَإِنَّ الْجُمْهُورَ يَقْبَلُونَهُ، وَرَدَّهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، كَحَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلَيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ». قَالَ ابْنُ جُريجَ: فَلَقِيتُ الزُّهْرِيَّ فَسَأَلْتُهُ عَنْهُ، فَلَمْ يَعْرِفْهُ وَكَحَدِيثِ رَبِيعَةَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ”قُضِيَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ” ثُمَّ نَسِيَ سُهَيْلٌ، لِآفَةٍ حَصَلَتْ لَهُ، فَكَانَ يَقُولُ حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي.
(قُلْتُ): هَذَا أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنَ الْأَوَّلِ، وَقَدْ جَمَعَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ كِتَابًا فِيمَنْ حَدَّثَ بِحَدِيثٍ ثُمَّ نَسِيَ.
مَسْأَلَةٌ
وَمَنْ أَخَذَ عَلَى التَّحْدِيثِ أُجْرَةً هَلْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ أَمْ لَا؟ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي حَاتِمٍ أَنَّهُ لَا يُكْتَبُ عَنْهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ خَرْمِ الْمُرُوءَةِ وَتَرَخَّصَ أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنِ، وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَآخَرُونَ، كَمَا تُؤْخَذُ الْأُجْرَةُ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» وَقَدْ أَفْتَى الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فَقِيهُ الْعِرَاقِ بِبَغْدَادَ لِأَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ النَّقُورِ بِأَخْذِ الْأُجْرَةِ، لِشَغْلِ الْمُحَدِّثِينَ لَهُ عَنِ التَّكَسُّبِ لِعِيَالِه.
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَعْلَى الْعِبَارَاتِ فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ أَنْ يُقَالَ ”حُجَّةٌ” أَوْ ”ثِقَةٌ” وَأَدْنَاهَا أَنْ يُقَالَ ”كَذَّابٌ”.
(قُلْتُ)
وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ يَعْسُرُ ضَبْطُهَا، وَقَدْ تَكَلَّمَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو عَلَى مَرَاتِبَ مِنْهَا وَثَمَّ اصْطِلَاحَاتٌ لِأَشْخَاصٍ، يَنْبَغِي التَّوْقِيفُ عَلَيْهَا.
مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ إِذَا قَالَ فِي الرَّجُلِ: ”سَكَتُوا عَنْهُ” أَوْ ”فِيهِ نَظَرٌ” فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي أَدْنَى الْمَنَازِلِ وَأَرْدَئِهَا عِنْدَهُ، وَلَكِنَّهُ لَطِيفُ الْعِبَارَةِ فِي التَّجْرِيحِ، فَلْيُعْلَمْ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: إِذَا قُلْتُ ”لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ” فَهُوَ ثِقَةٌ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ إِذَا قِيلَ ”صَدُوقٌ” أَوْ ”مَحَلُّهُ الصِّدْقُ” أَوْ ”لَا بَأْسَ بِهِ” فَهُوَ مِمَّنْ يَكْتُبُ حَدِيثَهُ وَيَنْظُرُ فِيهِ.
وَرَوَى ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ الْمِصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُتْرَكُ الرَّجُلُ حَتَّى يَجْتَمِعَ الْجَمِيعُ عَلَى تَرْكِ حَدِيثِهِ.
وَقَدْ بَسَطَ ابْنُ الصَّلَاحِ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ وَالْوَاقِفُ عَلَى عِبَارَاتِ الْقَوْمِ يَفْهَمُ مَقَاصِدَهُمْ بِمَا عَرَفَ مِنْ عِبَارَتِهِمْ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، وَبِقَرَائِنِ تُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَقَدْ فُقِدَتْ شُرُوطُ الْأَهْلِيَّةِ فِي غَالِبِ أَهْلِ زَمَانِنَا، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُرَاعَاةُ اتِّصَالِ السِّلْسِلَةِ فِي الْإِسْنَادِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ مَشْهُورًا بِفِسْقٍ وَنَحْوِهِ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَأْخُوذًا عَنْ ضَبْطِ سَمَاعِهِ مِنْ مَشَايِخِهِ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهَذَا الشَّأْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
النوع الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: كَيْفِيَّةُ سَمَاعِ الْحَدِيثِ وَتَحَمُّلِهِ وَضَبْطِهِ
يَصِحُّ تَحَمُّلُ الصِّغَارِ الشَّهَادَةَ وَالْأَخْبَارَ، وَكَذَلِكَ الْكُفَّارُ إِذَا أَدَّوْا مَا حَمَلُوهُ فِي حَالِ كَمَالِهِمْ، وَهُوَ الِاحْتِلَامُ وَالْإِسْلَامُ.
وَيَنْبَغِي الْمُبَارَاةُ إِلَى إِسْمَاعِ الْوِلْدَانِ الْحَدِيثَ النَّبَوِيَّ وَالْعَادَةُ الْمُطَّرِدَةُ فِي أَهْلِ هَذِهِ الْأَعْصَارِ وَمَا قَبْلَهَا بِمُدَدٍ مُتَطَاوِلَةٍ أَنَّ الصَّغِيرَ يُكْتَبُ لَهُ حُضُورٌ إِلَى تَمَامِ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ عُمْرِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُسَمَّى سَمَاعًا، وَاسْتَأْنَسُوا فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ «أَنَّهُ عَقَلَ مَجَّةً مَجَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَجْهِهِ مِنْ دَلْوٍ فِي دَارِهِمْ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فَجَعَلُوهُ فَرْقًا بَيْنَ السَّمَاعِ وَالْحُضُورِ، وَفِي رِوَايَةٍ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِ سِنِينَ.
وَضَبَطَهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ بِسِنِّ التَّمْيِيزِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الدَّابَّةِ وَالْحِمَارِ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا يَنْبَغِي السَّمَاعُ إِلَّا بَعْدَ الْعِشْرِينَ سَنَةً وَقَالَ: بَعْضُ عَشْرٌ، وَقَالَ آخَرُونَ: ثَلَاثُونَ وَالْمَدَارُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى التَّمْيِيزِ، فَمَتَى كَانَ الصَّبِيُّ يَعْقِلُ كُتِبَ لَهُ سَمَاعٌ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو: وَبَلَغَنَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ صَبِيًّا ابْنَ أَرْبَعِ سِنِينَ قَدْ حُمِلَ إِلَى الْمَأْمُونِ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَنَظَرَ فِي الرَّأْيِ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا جَاعَ يَبْكِي.
[أَقْسَامُ تَحَمُّلِ الْحَدِيثِ]
وَأَنْوَاعُ تَحَمُّلِ الْحَدِيثِ ثَمَانِيَةٌ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: السَّمَاعُ
وَتَارَةً يَكُونُ مِنْ لَفْظِ الْمُسْمَعِ حِفْظًا، أَوْ مِنْ كِتَابٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: فَلَا خِلَافَ حِينَئِذٍ أَنْ يَقُولَ السَّامِعُ ”حَدَّثَنَا”، وَ”أَخْبَرَنَا”، و”أَنْبَأَنَا” و”سَمِعْتُ”، وَ”قَالَ لَنَا”، وَ”ذَكَرَ فُلَانٌ”.
وَقَالَ الْخَطِيبُ: أَرْفَعُ الْعِبَارَاتِ ”سَمِعْتُ”، ثُمَّ ”حَدَّثَنَا”، و”حَدَّثَنِي”، (قَالَ) وَقَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَكَادُونَ يُخْبِرُونَ عَمَّا سَمِعُوهُ مِنَ الشَّيْخِ إِلَّا بِقَوْلِهِمْ ”أَخْبَرَنَا”، وَمِنْهُمْ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وهُشَيْمُ (بْنُ بَشِيرٍ)، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَآخَرُونَ كَثِيرُونَ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ”حَدَّثَنَا” وَ”أَخْبَرَنَا” أَعْلَى مِنْ ”سَمِعْتُ”; لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَقْصِدُهُ بِالْإِسْمَاعِ، بِخِلَافِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
”حَاشِيَةٌ” قُلْتُ بَلْ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَعْلَى الْعِبَارَاتِ عَلَى هَذَا أَنْ يَقُولَ ”حَدَّثَنِي”، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ ”حَدَّثَنَا” أَوْ ”أَخْبَرَنَا”، قَدْ لَا يَكُونُ قَصْدُهُ الشَّيْخَ بِذَلِكَ أَيْضًا; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْقِرَاءَةُ عَلَى الشَّيْخِ حِفْظًا أَوْ مِنْ كِتَابٍ
وَهُوَ ”الْعَرْضُ” عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَالرِّوَايَةُ بِهَا سَائِغَةٌ عَنِ الْعُلَمَاءِ، إِلَّا عِنْدَ شُذَّاذٍ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ وَمُسْتَنَدُ الْعُلَمَاءِ حَدِيثُ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ وَهِيَ دُونَ السَّمَاعِ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ وَعَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ أَنَّهَا أَقْوَى وَقِيلَ هُمَا سَوَاءٌ، وَيُعْزَى ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْكُوفَةِ، وَإِلَى مَالِكٍ أَيْضًا وَأَشْيَاخِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَإِلَى اخْتِيَارِ الْبُخَارِيِّ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَعَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمَشْرِقِ.
فَإِذَا حَدَّثَ بِهَا يَقُولُ ”قَرَأْتُ” أَوْ قُرِئَ عَلَى فُلَانٍ وَأَنَا أَسْمَعُ فَأُقِرُّ بِهِ” أَوْ ”أَخْبَرَنَا” أَوْ ”حَدَّثَنَا قِرَاءَةً عَلَيْهِ”، وَهَذَا وَاضِحٌ، فَإِنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ جَازَ عِنْدَ مَالِكٍ وَالْبُخَارِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، وَالزُّهْرِيِّ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَمُعْظَمِ الْحِجَازِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ، حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ سَوَّغَ ”سَمِعْتُ” أَيْضًا، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُجَوِّزَ ”أَخْبَرَنَا”، وَلَا يُجَوِّزَ ”حَدَّثَنَا” وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا، وَجُمْهُورُ الْمَشَارِقَةِ، بَلْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ وَقَدْ قِيلَ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: وَهُوَ الشَّائِعُ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ.
”فَرْعٌ” وَلَا يَشْتَرِطُ أَنْ يُقِرَّ الشَّيْخُ بِمَا قُرِئَ عَلَيْهِ نُطْقًا، بَلْ يَكْفِي سُكُوتَهُ وَإِقْرَارَهُ عَلَيْهِ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَقَالَ آخَرُونَ مِنَ الظَّاهِرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: لَا بُدَّ مِنِ اسْتِنْطَاقِهِ بِذَلِكَ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَسَلِيمٌ الرَّازِيُّ قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: إِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ لَمْ تَجُزْ الرِّوَايَةُ، وَيَجُوزُ الْعَمَلُ بِمَا سَمِعَ عَلَيْه
”فَرْعٌ” قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَالْحَاكِمُ يَقُولُ: فِيمَا قُرِئَ عَلَى الشَّيْخِ وَهُوَ وَحْدَهُ ”حَدَّثَنِي”، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ ”حَدَّثَنَا”، وَفِيمَا قَرَأَهُ عَلَى الشَّيْخِ وَحْدَهُ ”أَخْبَرَنِي”، فَإِنْ قَرَأَهُ غَيْرُهُ ”أَخْبَرَنَا”
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا حَسَنٌ فَائِقٌ، فَإِنْ شَكَّ أَتَى بِالْمُتَحَقِّقِ، وَهُوَ الْوَحْدَةُ ”حَدَّثَنِي” أَوْ ”أَخْبَرَنِي”، عِنْدَ ابْنِ الصَّلَاحِ وَالْبَيْهَقِيِّ، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ يَأْتِي بِالْأَدْنَى، وَهُوَ ”حَدَّثَنَا” أَوْ ”أَخْبَرَنَا”
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ مُسْتَحَبٌّ، لَا مُسْتَحَقٌّ، عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ كَافَّة.
”فَرْعٌ” اخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ سَمَاعِ مَنْ يَنْسَخُ أَوْ إِسْمَاعِهِ فَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّبْغِيُّ يَقُولُ ”حَضَرْتُ”، وَلَا يَقُولُ ”حَدَّثَنَا” وَلَا ”أَخْبَرَنَا” وَجَوَّزَهُ مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْحَافِظُ.
وَكَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَنْسَخُ، وَهُوَ يُقْرَأُ عَلَيْهِ
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ كَتَبْتُ حَدِيثَ عَارِمٍ وَعَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ، وَحَضَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَهُوَ شَابٌّ، فَجَلَسَ إِسْمَاعِيلُ الصَفَّارُ وَهُوَ يُمْلِي، وَالدَّارَقُطْنِيُّ يَنْسَخُ جُزْءًا، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ لَا يَصِحُّ سَمَاعُكَ وَأَنْتَ تَنْسَخُ، فَقَالَ: فَهْمِي لِلْإِمْلَاءِ بِخِلَافِ فَهْمِكِ، فَقَالَ لَهُ كَمْ أَمْلَى الشَّيْخُ حَدِيثًا إِلَى الْآنَ؟ فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، ثُمَّ سَرَدَهَا كُلَّهَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، بِأَسَانِيدِهَا وَمُتُونِهَا، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ- تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ- يَكْتُبُ فِي مَجْلِسِ السَّمَاعِ، وَيَنْعَسُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَيَرُدُّ عَلَى الْقَارِئِ رَدًّا جَيِّدًا بَيِّنًا وَاضِحًا، بِحَيْثُ يَتَعَجَّبُ الْقَارِئُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يُغَلِّطُ فِيمَا فِي يَدِهِ وَهُوَ مُسْتَيْقِظٌ، وَالشَّيْخُ نَاعِسٌ وَهُوَ أَنْبَهُ مِنْهُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَهُوَ شَابٌّ، فَجَلَسَ إِسْمَاعِيلُ الصَفَّارُ وَهُوَ يُمْلِي، وَالدَّارَقُطْنِيُّ يَنْسَخُ جُزْءًا، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ لَا يَصِحُّ سَمَاعُكَ وَأَنْتَ تَنْسَخُ، فَقَالَ: فَهْمِي لِلْإِمْلَاءِ بِخِلَافِ فَهْمِكِ، فَقَالَ لَهُ: كَمْ أَمْلَى الشَّيْخُ حَدِيثًا إِلَى الْآنَ؟ فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، ثُمَّ سَرَدَهَا كُلَّهَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، بِأَسَانِيدِهَا وَمُتُونِهَا، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ- تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ- يَكْتُبُ فِي مَجْلِسِ السَّمَاعِ، وَيَنْعَسُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَيَرُدُّ عَلَى الْقَارِئِ رَدًّا جَيِّدًا بَيِّنًا وَاضِحًا، بِحَيْثُ يَتَعَجَّبُ الْقَارِئُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يُغَلِّطُ فِيمَا فِي يَدِهِ وَهُوَ مُسْتَيْقِظٌ، وَالشَّيْخُ نَاعِسٌ وَهُوَ أَنْبَهُ مِنْهُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَكَذَلِكَ التَّحَدُّثُ فِي مَجْلِسِ السَّمَاعِ، وَمَا إِذَا كَانَ الْقَارِئُ سَرِيعَ الْقِرَاءَةِ، أَوْ كَانَ السَّامِعُ بَعِيدًا مِنَ الْقَارِئِ ثُمَّ اخْتَارَ أَنْ يُغْتَفَرَ الْيَسِيرُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ يَفْهَمُ مَا يَقْرَأُ مَعَ النَّسْخِ فَالسَّمَاعُ صَحِيحٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْبِرَ ذَلِكَ بِالْإِجَازَةِ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ.
هَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي زَمَانِنَا الْيَوْمَ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَ السَّمَاعِ مَنْ يَفْهَمُ وَمَنْ لَا يَفْهَمُ، وَالْبَعِيدُ مِنَ الْقَارِئِ، وَالنَّاعِسُ، وَالْمُتَحَدِّثُ، وَالصِّبْيَانُ الَّذِينَ لَا يَنْضَبِطُ أَمْرُهُمْ، بَلْ يَلْعَبُونَ غَالِبًا، وَلَا يَشْتَغِلُونَ بِمُجَرَّدِ السَّمَاعِ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ قَدْ كَانَ يُكْتَبُ لَهُمْ السَّمَاعُ بِحَضْرَةِ شَيْخِنَا الْحَافِظِ أَبِي الْحَجَّاجِ الْمِزِّيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَبَلَغَنِي عَنِ الْقَاضِي تَقِيِّ الدِّينِ سُلَيْمَانَ الْمَقْدِسِيِّ أَنَّهُ زُجِرَ فِي مَجْلِسِهِ الصِّبْيَانُ عَنِ اللَّعِبِ، فَقَالَ: لَا تَزْجُرُوهُمْ، فَإِنَّا سَمِعْنَا مِثْلَهُمْ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ الْعَلَمِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: يَكْفِيكَ مِنَ الْحَدِيثِ شَمُّهُ وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ وَقَدْ كَانَتْ الْمَجَالِسُ تُعْقَدُ بِبَغْدَادَ، وَبِغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، فَيَجْتَمِعُ الْفِئَامُ مِنَ النَّاسِ، بَلْ الْأُلُوفُ الْمُؤَلَّفَةُ، وَيَصْعَدُ الْمُسْتَمْلِي عَلَى الْأَمَاكِنِ الْمُرْتَفِعَةِ، ويُبِلِّغُونَ عَنِ الْمَشَايِخِ مَا يُمْلُونَ، فَيُحَدِّثُ النَّاسُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ، مَعَ مَا يَقَعُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَجَامِعِ مِنَ اللَّغَطِ وَالْكَلَامِ وَحَكَى الْأَعْمَشُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي حَلْقَةِ إِبْرَاهِيمَ، إِذَا لَمْ يَسْمَعْ أَحَدُهُمْ الْكَلِمَةَ جَيِّدًا اسْتَفْهَمَهَا مِنْ جَارِهِ، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَغَيْرِهِمَا، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلَحُ لِلنَّاسِ، وَإِنْ قَدْ تَوَرَّعَ آخَرُونَ وَشَدَّدُوا فِي ذَلِكَ، وَهُوَ الْقِيَاسُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَجُوزُ السَّمَاعُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، كَمَا كَانَ السَّلَفُ يَرْوُونَ عَنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِحَدِيثٍ: «حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ».
وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنْ شُعْبَةَ: إِذَا حَدَّثَكَ مَنْ لَا تَرَى شَخْصَهُ فَلَا تَرْوِ عَنْهُ، فَلَعَلَّهُ شَيْطَانٌ قَدْ تَصَوَّرَ فِي صُورَتِهِ، يَقُولُ حَدَّثَنَا أَخْبَرَنَا وَهَذَا عَجِيبٌ وَغَرِيبٌ جِدًّا، إِذَا حَدَّثَهُ بِحَدِيثٍ ثُمَّ قَالَ: ” لَا تَرْوِهِ عَنِّي”، أَوْ ”رَجَعْتُ عَنْ إِسْمَاعِكَ”، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُبْدِ مُسْتَنَدًا سِوَى الْمَنْعِ الْيَابِسِ، أَوْ أَسْمَعَ قَوْمًا فَخَصَّ بَعْضُهُمْ، وَقَالَ: ”لَا أُجِيزُ لِفُلَانٍ أَنْ يَرْوِيَ عَنِّي شَيْئًا” فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى قَوْلِهِ وَقَدْ حَدَّثَ النَّسَائِيُّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ مِسْكِينٍ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَأَفْتَى الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ بِذَلِكَ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْإِجَازَةُ
وَالرِّوَايَةُ بِهَا جَائِزَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَادَّعَى الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ البَاجِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَنَقَضَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ بِمَا رَوَاهُ الرَّبِيعُ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَنَعَ مِنَ الرِّوَايَةِ بِهَا وَبِذَلِكَ قَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَعَزَاهُ إِلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَلِكَ قَطَعَ بِالْمَنْعِ الْقَاضِي حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ المَرْوَرُّوذِيُّ صَاحِبُ التَّعْلِيقَةِ، وَقَالَا جَمِيعًا لَوْ جَازَتْ الرِّوَايَةُ بِالْإِجَازَةِ لَبَطَلَتْ الرِّحْلَةُ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ شُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَحُفَّاظِهِ، وَمِمَّنْ أَبْطَلَهَا إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَصْبَهَانِيُّ، وَأَبُو نَصْرٍ الوَائلِيُّ السِّجْزِيُّ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ لَقِيَهُمْ، ثُمَّ هِيَ أَقْسَامٌ:
1- إِجَازَةٌ مِنْ مُعَيَّنٍ لِمُعَيَّنٍ فِي مُعَيَّنٍ، بِأَنْ يَقُولَ: ”أَجَزْتُكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي هَذَا الْكِتَابَ”، أَوْ ”هَذِهِ الْكُتُبَ”، وَهِيَ الْمُنَاوَلَةُ، فَهَذِهِ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ، حَتَّى الظَّاهِرِيَّةِ، لَكِنْ خَالَفُوا فِي الْعَمَلِ بِهَا; لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْمُرْسَلِ عِنْدَهُمْ، إِذَا لَمْ يَتَّصِلِ السَّمَاعُ.
2- إِجَازَةٌ لِمُعَيَّنٍ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: ” أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي مَا أَرْوِيهِ”، أَوْ ”مَا صَحَّ عِنْدَكَ، مِنْ مَسْمُوعَاتِي وَمُصَنَّفَاتِي” وَهَذَا مِمَّا يُجَوِّزُهُ الْجُمْهُورُ أَيْضًا، رِوَايَةً وَعَمَلًا.
3- الْإِجَازَةُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: ”جَزْتُ لِلْمُسْلِمِينَ”، أَوْ ”لِلْمَوْجُودِينَ”، أَوْ ”لِمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ”، وَتُسَمَّى ”الْإِجَازَةَ الْعَامَّةَ” وَقَدْ اعْتَبَرَهَا طَائِفَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ وَالْعُلَمَاءِ، فَمَنْ جَوَّزَهَا الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ، وَنَقَلَهَا عَنْ شَيْخِهِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ، وَنَقَلَهَا أَبُو بَكْرٍ الْحَازِمِيُّ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيِّ الْحَافِظِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ مُحَدِّثِي الْمَغَارِبَةِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ.
4- الْإِجَازَةُ لِلْمَجْهُولِ بِالْمَجْهُولَ، فَفَاسِدَةٌ، وَلَيْسَ مِنْهَا مَا يَقَعُ مِنَ الِاسْتِدْعَاءِ لِجَمَاعَةٍ مُسَمَّيْنَ لَا يَعْرِفُهُمْ الْمُجِيزُ أَوْ لَا يَتَصَفَّحُ أَنْسَابَهُمْ وَلَا عِدَّتَهُمْ، فَإِنَّ هَذَا سَائِغٌ شَائِعٌ، كَمَا لَا يَسْتَحْضِرُ الْمُسْمَعُ أَنْسَابَ مَنْ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ وَلَا عِدَّتَهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ قَالَ: أ”َجَزْتُ رِوَايَةَ هَذَا الْكِتَابِ لِمَنْ أُحِبُّ رِوَايَتَهُ عَنِّي”، فَقَدْ كَتَبَهُ أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْأَزْدِيُّ، وَسَوَّغَهُ غَيْرُهُ، وَقَوَّاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ:” أَجَزْتُكَ وَلِوَلَدِكَ وَنَسْلِكَ وَعَقِبِكَ رِوَايَةَ هَذَا الْكِتَابِ” أَوْ ”مَا يَجُوزُ لِي رِوَايَتُهُ” فَقَدْ جَوَّزَهَا جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ لِرَجُلٍ ”أَجَزْتُ لَكَ وَلِأَوْلَادِكَ وَلِحَبَلِ الْحَبَلَةِ” وَأَمَّا لَوْ قَالَ ”أَجَزْتُ لِمَنْ يُوجَدُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ”، فَقَدْ حَكَى الْخَطِيبُ
جَوَازَهَا عَنِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ الْحَنْبَلِيِّ، وَأَبِي الْفَضْلِ
بْنِ عَمْرُوسٍ الْمَالِكِيِّ، وَحَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ عَنْ طَائِفَةٍ، ثُمَّ ضَعَّفَ ذَلِكَ، وَقَالَ هَذَا يُبْنَى عَلَى أَنَّ الْإِجَازَةَ إِذْنٌ أَوْ مُحَادَثَةٌ، وَكَذَلِكَ
ضَعَّفَهَا ابْنُ الصَّلَاحِ، وَأَوْرَدَ الْإِجَازَةَ لِلطِّفْلِ الصَّغِيرِ الَّذِي لَا يُخَاطَبُ مِثْلُهُ، وَذَكَرَ الْخَطِيبُ أَنَّهُ قَالَ لِلْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ: إِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا قَالَ: لَا تَصِحُّ الْإِجَازَةُ إِلَّا لِمَنْ يَصِحُّ سَمَاعُهُ؟ فَقَالَ:
قَدْ يُجِيزُ الْغَائِبَ عَنْهُ، وَلَا يَصِحُّ سَمَاعُهُ مِنْهُ ثُمَّ رَجَّحَ الْخَطِيبُ صِحَّةَ الْإِجَازَةِ لِلصَّغِيرِ، قَالَ وَهُوَ الَّذِي رَأَيْنَا كَافَّةَ شُيُوخِنَا يَفْعَلُونَهُ، يُجِيزُونَ لِلْأَطْفَالِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْأَلُوا عَنْ أَعْمَارِهِمْ، وَلَمْ نَرَهُمْ أَجَازُوا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ قَالَ: ”أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي مَا صَحَّ عِنْدَكَ مِمَّا سَمِعْتَهُ وَمَا سَأَسْمَعُهُ”، فَالْأَوَّلُ جَيِّدٌ، وَالثَّانِي فَاسِدٌ وَقَدْ حَاوَلَ ابْنُ الصَّلَاحِ تَخْرِيجَهُ عَلَى أَنَّ الْإِجَازَةَ إِذْنٌ كَالْوِكَالَةِ وَفِيمَا لَوْ قَالَ: ”وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ مَا سَأَمْلِكُهُ” خِلَافٌ
وَأَمَّا الْإِجَازَةُ بِمَا يَرْوِيهِ إِجَازَةً، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ الرِّوَايَةُ بِالْإِجَازَةِ عَلَى الْإِجَازَةِ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَشَيْخُهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ عُقْدَةَ، وَالْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، وَالْخَطِيبُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ جَوَازُهُ، وَشَبَّهُوا ذَلِكَ بِتَوْكِيلِ الْوَكِيلِ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: الْمُنَاوَلَةُ
فَإِنْ كَانَ مَعَهَا إِجَازَةٌ، مِثْلَ أَنْ يُنَاوِلَ الشَّيْخُ الطَّالِبَ كِتَابًا مِنْ سَمَاعِهِ، وَيَقُولَ لَهُ ”ارْوِ هَذَا عَنِّي، أَوْ يُمَلِّكُهُ إِيَّاهُ، أَوْ يُعِيرُهُ لِيَنْسَخَهُ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِلَيْهِ، أَوْ يَأْتِيهِ الطَّالِبُ بِكِتَابٍ مِنْ سَمَاعِهِ فَيَتَأَمَّلُهُ، ثُمَّ يَقُولُ ”ارْوِ عَنِّي هَذَا”، وَيُسَمَّى هَذَا ”عَرْضَ الْمُنَاوِلِ”
وَقَدْ قَالَ الْحَاكِمُ: إِنَّ هَذَا إِسْمَاعٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَحَكَوْهُ عَنْ مَالِكٍ نَفْسِهِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَمُجَاهِدٍ، وَأَبِي الزُّبَيْرِ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، مِنَ الْمَكِّيِّينَ، وَعَلْقَمَةَ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَالشَّعْبِيِّ، مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَقَتَادَةَ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَأَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ، مِنَ الْبَصْرَةِ، وَابْنِ وَهْبٍ، وَابْنِ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبَ، مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَنَقَلَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ مَشَايِخِهِ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَقَدْ خَلَطَ فِي كَلَامِهِ عَرْضَ الْمُنَاوَلَةِ بِعَرْضِ الْقِرَاءَةِ.
ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ: وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْإِسْلَامِ، الَّذِينَ أَفَتَوْا فِي الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْهُ سَمَاعًا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى والبُوَيْطِيُّ والمُزَنِيُّ، وَعَلَيْهِ عَهِدْنَا أَئِمَّتَنَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبُوا، وَإِلَيْهِ نَذْهَبُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُمَلِّكْهُ الشَّيْخُ الْكِتَابَ، وَلَمْ يُعِرْهُ إِيَّاهُ، فَإِنَّهُ مُنْحَطٌّ عَمَّا قَبْلَهُ، حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هَذَا مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَيَبْقَى مُجَرَّدَ إِجَازَةٍ.
(قُلْتُ): أَمَّا إِذَا كَانَ الْكِتَابُ مَشْهُورًا، كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، أَوْ شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ فَهُوَ كَمَا لَوْ مَلَّكَهُ أَوْ أَعَارَهُ إِيَّاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ تَجَرَّدَتْ الْمُنَاوَلَةُ عَنِ الْإِذْنِ فِي الرِّوَايَةِ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِهَا، وَحَكَى الْخَطِيبُ عَنْ بَعْضِهِمْ جَوَازَهَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ جَوَّزَ الرِّوَايَةَ بِمُجَرَّدِ إِعْلَامِ الشَّيْخِ لِلطَّالِبِ أَنَّ هَذَا سَمَاعُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَقُولُ الرَّاوِي بِالْإِجَازَةِ ”أَنْبَأَنَا” فَإِنْ قَالَ ”إِجَازَةً” فَهُوَ أَحْسَنُ، وَيَجُوزُ ”أَنْبَأَنَا” وَ”حَدَّثَنَا” عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّهُمْ جَعَلُوا عَرْضَ الْمُنَاوَلَةِ الْمَقْرُونَةِ بِالْإِجَازَةِ بِمَنْزِلَةِ السَّمَاعِ، فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ ”حَدَّثَنَا” وَ”أَخْبَرَنَا”، بِلَا إِشْكَالٍ.
وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُحَدِّثِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ ”حَدَّثَنَا” وَلَا ”أَخْبَرَنَا” بَلْ مُقَيَّدًا وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ يُخَصِّصُ الْإِجَازَةَ بِقَوْلِهِ ”خَبَّرْنَا” بِالتَّشْدِيدِ.
الْقِسْمُ الْخَامِسُ: الْمُكَاتَبَةُ
بِأَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ حَدِيثِهِ.
فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ، فَهُوَ كَالْمُنَاوَلَةِ الْمَقْرُونَةِ بِالْإِجَازَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعَهَا إِجَازَةٌ، فَقَدْ جَوَّزَ الرِّوَايَةَ بِهَا أَيُّوبُ، وَمَنْصُورٌ، وَاللَّيْثُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ أَقْوَى مِنَ الْإِجَازَةِ الْمُجَرَّدَةِ، وَقَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ بِمَنْعِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَجَوَّزَ اللَّيْثُ وَمَنْصُورٌ فِي الْمُكَاتَبَةِ أَنْ يَقُولَ ”أَخْبَرَنَا” وَ”حَدَّثَنَا” مُطْلَقًا، وَالْأَحْسَنُ وَالْأَلْيَقُ تَقْيِيدُهُ بِالْمُكَاتَبَةِ.
الْقِسْمُ السَّادِسُ: إِعْلَامُ الشَّيْخِ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ سَمَاعُهُ مِنْ فُلَانٍ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ
فَقَدْ سَوَّغَ الرِّوَايَةَ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ، مِنْهُمْ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَقَطَعَ بِهِ ابْنُ الصَّبَّاغِ، وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ: لَوْ أَعْلَمَهُ بِذَلِكَ وَنَهَاهُ عَنْ رِوَايَتِهِ عَنْهُ فَلَهُ رِوَايَتُهُ، كَمَا لَوْ نَهَاهُ عَنْ رِوَايَتِهِ مَا سَمِعَهُ مِنْهُ.
الْقِسْمُ السَّابِعُ: الْوَصِيَّةُ
بِأَنْ يُوصِيَ بِكِتَابٍ لَهُ كَانَ يَرْوِيهِ لِشَخْصٍ فَقَدْ تَرَخَّصَ بَعْضُ السَّلَفِ (فِي رِوَايَةِ الْمُوصَى) لَهُ بِذَلِكَ الْكِتَابِ عَنْ الْمُوصِي، وَشَبَّهُوا ذَلِكَ بِالْمُنَاوَلَةِ وَبِالْإِعْلَامِ بِالرِّوَايَةِ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا بَعِيدٌ، وَهُوَ إِمَّا زَلَّةُ عَالِمٍ أَوْ مُتَأَوِّلٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِذَلِكَ رِوَايَتَهُ بِالْوِجَادَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْقِسْمُ الثَّامِنُ: الْوِجَادَةُ
وَصُورَتُهَا أَنْ يَجِدَ حَدِيثًا أَوْ كِتَابًا بِخَطِّ شَخْصٍ بِإِسْنَادِهِ، فَلَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ، فَيَقُولُ ”وَجَدْتُ بِخَطِّ فُلَانٍ حَدَّثَنَا فُلَانٌ” وَيُسْنِدُهُ وَيَقَعُ هَذَا أَكْثَرَ فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، يَقُولُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ ”وَجَدْتُ بِخَطِّ أَبِي حَدَّثَنَا فُلَانٌ” وَيَسُوقُ الْحَدِيثَ، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ: ”قَالَ فُلَانٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَدْلِيسٌ يُوهِمُ اللُّقِيَّ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَجَازَفَ بَعْضُهُمْ فَأَطْلَقَ فِيهِ ”حَدَّثَنَا” أَوْ ”أَخْبَرَنَا” وَانْتُقِدَ ذَلِكَ عَلَى فَاعِلِهِ، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ فِيمَا وَجَدَ مِنْ تَصْنِيفِهِ بِغَيْرِ خَطِّهِ ”ذَكَرَ فُلَانٌ”، وَ”قَالَ فُلَانٌ أَيْضًا، وَيَقُولُ ”بَلَغَنِي عَنْ فُلَانٍ”، فِيمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّهُ مِنْ تَصْنِيفِهِ أَوْ مُقَابَلَةِ كِتَابِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(قُلْتُ): وَالْوِجَادَةُ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ حِكَايَةٌ عَمَّا وَجَدَهُ فِي الْكِتَابِ وَأَمَّا الْعَمَلُ بِهَا فَمَنَعَ مِنْهُ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ، أَوْ أَكْثَرُهُمْ، فِيمَا حَكَاهُ بَعْضُهُمْ وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ جَوَازُ الْعَمَلِ بِهَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَقَطَعَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الْأُصُولِ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا عِنْدَ حُصُولِ الثِّقَةِ بِهِ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا يَتَّجِهُ غَيْرُهُ فِي الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ لِتَعَذُّرِ شُرُوطِ الرِّوَايَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، يَعْنِي فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُجَرَّدُ وِجَادَاتٍ.
(قُلْتُ): وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّ الْخَلْقِ أَعْجَبُ إِلَيْكُمْ إِيمَانًا؟ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ، قَالَ: وَكَيْفَ لَا يُؤْمِنُونَ وَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ؟ وَذَكَرُوا الْأَنْبِيَاءَ، فَقَالَ: وَكَيْفَ لَا يُؤْمِنُونَ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ؟ قَالُوا: فَنَحْنُ، قَالَ: وَكَيْفَ لَا تُؤْمِنُونَ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قَالُوا: فَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: قَوْمٌ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ، يَجِدُونَ صُحُفًا يُؤْمِنُونَ بِمَا فِيهَا».
وَقَدْ ذَكَرْنَا الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ وَلَفْظِهِ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَدْحُ مَنْ عَمِلَ بِالْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِمُجَرَّدِ الْوِجَادَةِ لَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
النوع الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: كِتَابَةُ الْحَدِيثِ وَضَبْطُهُ وَتَقْيِيدُهُ
قَدْ وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: «مَنْ كَتَبَ عَنِّي شَيْئًا سِوَى الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ».
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَمِمَّنْ رُوِّينَا عَنْهُ كَرَاهَةُ ذَلِكَ عُمَرُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو مُوسَى، وَأَبُو سَعِيدٍ، فِي جَمَاعَةٍ آخَرِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
قَالَ: وَمِمَّنْ رُوِّينَا عَنْهُ إِبَاحَةُ ذَلِكَ أَوْ فِعْلُهُ عَلِيٌّ، وَابْنُهُ الْحَسَنُ، وَأَنَسٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فِي جَمْعٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
(قُلْتُ): وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ”اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ”، وَقَدْ تَحَرَّرَ هَذَا الْفَصْلُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِنَا الْمُقَدِّمَاتِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: لَعَلَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ حِينَ يُخَافُ الْتِبَاسُهُ بِالْقُرْآنِ، وَالْإِذْنُ فِيهِ حِينَ أُمِنَ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ حُكِيَ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَلَى تَسْوِيغِ كِتَابَةِ الْحَدِيثِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُسْتَفِيضٌ، شَائِعٌ ذَائِعٌ، مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَيَنْبَغِي لِكَاتِبِ الْحَدِيثِ، أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ أَنْ يَضْبِطَ مَا يُشْكِلُ مِنْهُ، أَوْ قَدْ يُشْكِلُ عَلَى بَعْضِ الطَّلَبَةِ، فِي أَصْلِ الْكِتَابِ نَقْطًا وَشَكْلًا وَإِعْرَابًا، عَلَى مَا هُوَ الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَوْ قَيَّدَ فِي الْحَاشِيَةِ لَكَانَ حَسَنًا.
وَيَنْبَغِي تَوْضِيحُهُ، وَيُكْرَهُ التَّدْقِيقُ وَالتَّعْلِيلُ فِي الْكِتَابِ لِغَيْرِ عُذْرٍ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لِابْنِ عَمِّهِ حَنْبَلٌ- وَقَدْ رَآهُ يَكْتُبُ دَقِيقًا-: لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّهُ يَخُونُكَ أَحْوَجُ مَا تَكُونُ إِلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ بَيْنَ كُلِّ حَدِيثَيْنِ دَائِرَةٌ وَمِمَّنْ بَلَغَنَا عَنْهُ ذَلِكَ أَبُو الزِّنَادِ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ.
(قُلْتُ): قَدْ رَأَيْتُهُ فِي خَطِّ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَيَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ الدَّائِرَةَ غَفَلًا، فَإِذَا قَابَلَهَا نَقَطَ فِيهَا النُّقْطَةَ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَيُكْرَهُ أَنْ يُكْتَبَ ”عَبْدُ اللَّهِ فُلَانٌ، فَيَجْعَلُ ”عَبْدُ” آخِرَ سَطْرٍ وَالْجَلَالَةَ فِي أَوَّلِ سَطْرٍ، بَلْ يَكْتُبُهُ فِي سَطْرٍ وَاحِدٍ.
قَالَ: وَلْيُحَافِظْ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ، وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى رَسُولِهِ، وَإِنْ تَكَرَّرَ فَلَا يَسْأَمُ، فَإِنَّ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا.
قَالَ: وَمَا وُجِدَ مِنْ خَطِّ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ غَيْرِ صَلَاةٍ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الرِّوَايَةَ قَالَ الْخَطِيبُ: وَبَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نُطْقًا لَا خَطًّا.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَلْيَكْتُبْ الصَّلَاةَ وَالتَّسْلِيمَ مُجَلَّسَةً لَا رَمْزًا قَالَ: وَلَا يُقْتَصَرُ عَلَى قَوْلِهِ ”عَلَيْهِ السَّلَامُ”، يَعْنِي وَلْيَكْتُبْ صلى الله عليه وسلم وَاضِحَةً كَامِلَةً.
قَالَ: وَلْيُقَابِلْ أَصْلَهُ بِأَصْلٍ مُعْتَمَدٍ، وَمَعَ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مَوْثُوقٍ بِهِ ضَابِطٍ قَالَ: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ شَدَّدَ وَقَالَ: لَا يُقَابِلُ إِلَّا مَعَ نَفْسِهِ قَالَ: وَهَذَا مَرْفُوضٌ مَرْدُودٌ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّخْرِيجِ وَالتَّضْبِيبِ وَالتَّصْحِيحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الِاصْطِلَاحَاتِ الْمُطَّرِدَةِ وَالْخَاصَّةِ مَا أَطَالَ الْكَلَامَ فِيهِ جِدًّا.
وَتَكَلَّمَ عَلَى كِتَابَةِ ”ح” بَيْنَ الْإِسْنَادَيْنِ، وَأَنَّهَا ”ح” مُهْمَلَةٌ، مِنْ التَّحْوِيلِ أَوْ الْحَائِلُ بَيْنَ الْإِسْنَادَيْنِ، أَوْ عِبَارَةً عَنْ قَوْلِهِ ”الْحَدِيثَ”.
(قُلْتُ): وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا ”خَاءٌ” مُعْجَمَةٌ، أَيْ إِسْنَادٌ آخَرُ وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَحَكَى بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ.
النوع السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: صِفَةُ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: شَدَّدَ قَوْمٌ فِي الرِّوَايَةِ، فَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ مِنْ حِفْظِ الرَّاوِي أَوْ تَذَكُّرِهِ، وَحَكَاهُ عَنْ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي بَكْرٍ الصَّيْدَلَانِيِّ المَرْوَزِيِّ (الشَّافِعِيِّ).
وَاكْتَفَى آخَرُونَ، وَهُمْ الْجُمْهُورُ، بِثُبُوتِ سَمَاعِ الرَّاوِي لِذَلِكَ الَّذِي يَسْمَعُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بِخَطِّ غَيْرِهِ، وَإِنْ غَابَتْ عَنْهُ النُّسْخَةُ، إِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ سَلَامَتَهَا مِنْ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ.
وَتَسَاهَلَ آخَرُونَ فِي الرِّوَايَةِ مِنْ نُسَخٍ لَمْ تُقَابَلْ، بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الطَّالِبِ ”هَذَا مِنْ رِوَايَتِكَ” مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ، وَلَا نَظَرٍ فِي النُّسْخَةِ، وَلَا تَفَقُّدِ طَبَقَةِ سَمَاعِهِ.
قَالَ: وَقَدْ عَدَّهُمْ الْحَاكِمُ فِي طَبَقَاتِ الْمَجْرُوحِينَ.
فَرْعٌ
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: وَالسَّمَاعُ عَلَى الضَّرِيرِ أَوْ الْبَصِيرِ الْأُمِّيِّ، إِذَا كَانَ مُثْبَتًا بِخَطِّ غَيْرِهِ أَوْ قَوْلِهِ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ النَّاسِ فمن الْعُلَمَاءِ مَنْ مَنَعَ الرِّوَايَةَ عَنْهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهَا.
فَرْعٌ آخَرُ
إِذَا رَوَى كِتَابًا، كَالْبُخَارِيِّ مَثَلًا، عَنْ شَيْخٍ، ثُمَّ وَجَدَ نُسْخَةً بِهِ لَيْسَتْ مُقَابَلَةً عَلَى أَصْلِ شَيْخِهِ، أَوْ لَمْ يَجِدْ أَصْلَ سَمَاعِهِ فِيهَا عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ تَسْكُنُ نَفْسُهُ إِلَى صِحَّتِهَا، فَحَكَى الْخَطِيبُ عَنْ عَامَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ مَنَعُوا مِنَ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ، وَمِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ بْنُ الصَّبَّاغِ الْفَقِيهُ، وَحُكِيَ عَنْ أَيُّوبَ وَمُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ البُرْسَانِيِّ أَنَّهُمَا رَخَّصَا فِي ذَلِكَ.
(قُلْتُ): وَإِلَى هَذَا أَجْنَحُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَوَسَّطَ الشَّيْخُ تَقِيٌّ الدِّينِ ابْنُ الصَّلَاحِ فَقَالَ: إِنْ كَانَتْ لَهُ مِنْ شَيْخِهِ إِجَازَةً جَازَتْ رِوَايَتُهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ.
فَرْعٌ آخَرُ
إِذَا اخْتَلَفَ الْحَافِظُ وَكِتَابُهُ فَإِنْ كَانَ اعْتِمَادُهُ فِي حِفْظِهِ عَلَى كِتَابِهِ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ فَلْيَرْجِعْ إِلَى حِفْظِهِ، وَحَسُنَ أَنْ يُنَبِّهُ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ مَعَ ذَلِكَ، كَمَا رُوِيَ عَنْ شُعْبَةَ، وَكَذَلِكَ إِذَا خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ، فَلْيُنَبِّهْ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ رِوَايَتِهِ كَمَا فَعَلَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ آخَرُ
لَوْ وَجَدَ طَبَقَةَ سَمَاعِهِ فِي كِتَابٍ، إِمَّا بِخَطِّهِ أَوْ خَطِّ مَنْ يَثِقُ بِهِ، وَلَمْ يَتَذَكَّرْ سَمَاعَهُ لِذَلِكَ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الرِّوَايَةِ، وَالْجَادَّةُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ- وَبِهِ يَقُولُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَبُو يُوسُفَ- الْجَوَازُ، اعْتِمَادًا عَلَى مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، وَكَمَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَتَذَكَّرَ سَمَاعَهُ لِكُلِّ حَدِيثٍ أَوْ ضَبْطَهُ، كَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ تَذَكُّرُهُ لِأَصْلِ سَمَاعِهِ.
فَرْعٌ آخَرُ
وَأَمَّا رِوَايَتُهُ الْحَدِيثَ بِالْمَعْنَى فَإِنْ كَانَ الرَّاوِي غَيْرَ عَالِمٍ وَلَا عَارِفٍ بِمَا يُحِيلُ الْمَعْنَى، فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ لَهُ رِوَايَتُهُ الْحَدِيثَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ، بَصِيرًا بِالْأَلْفَاظِ وَمَدْلُولَاتِهَا، وَبِالْمُتَرَادِفِ مِنَ الْأَلْفَاظِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَقَدْ جَوَّزَ ذَلِكَ جُمْهُورُ النَّاسِ سَلَفًا وَخَلَفًا، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ، كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ فِي الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّ الْوَاقِعَةَ تَكُونُ وَاحِدَةً، وَتَجِيءُ بِأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ، مِنْ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ مُتَبَايِنَةٍ.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا قَدْ يُوقِعَ فِي تَغْيِيرِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، مَنَعَ مِنَ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى طَائِفَةٌ آخَرُونَ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ، وَشَدَّدُوا فِي ذَلِكَ آكَدَ التَّشْدِيدِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْوَاقِعُ، وَلَكِنْ لَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَنَسٌ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- يَقُولُونَ إِذَا رَوَوْا الْحَدِيثَ ـ: ”أَوْ نَحْوَ هَذَا”، أَوْ ”شَبَهَهُ”، ”أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ”.
فَرْعٌ آخَرُ
وَهَلْ يَجُوزُ اخْتِصَارُ الْحَدِيثِ، فَيُحْذَفُ بَعْضُهُ، إِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَحْذُوفُ مُتَعَلِّقًا بِالْمَذْكُورِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
فَالَّذِي عَلَيْهِ صَنِيعُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيِّ اخْتِصَارُ الْأَحَادِيثِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمَاكِنِ.
وَأَمَّا مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ يَسُوقُ الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ، وَلَا يَقْطَعُهُ، وَلِهَذَا رَجَّحَهُ كَثِيرٌ مِنْ حُفَّاظِ الْمَغَارِبَةِ، وَاسْتَرْوَحَ إِلَى شَرْحِهِ آخَرُونَ، لِسُهُولَةِ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَتَفْرِيقِهِ الْحَدِيثَ فِي أَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ بِحَسَبِ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ جُمْهُورُ النَّاسِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا.
قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ.
مَسْأَلَةٌ
حَذْفُ بَعْضِ الْخَبَرِ جَائِزٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، إِلَّا فِي الْغَايَةِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَنَحْوِهِ، أَمَّا إِذَا حَذَفَ الزِّيَادَةَ لِكَوْنِهِ شَكَّ فِيهَا، فَهَذَا سَائِغٌ، كَانَ مَالِكٌ يَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرًا، بَلْ كَانَ يَقْطَعُ إِسْنَادَ الْحَدِيثِ إِذَا شَكَّ فِي وَصْلِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَنْقِصْ الْحَدِيثَ وَلَا تَزِدْ فِيهِ.
فَرْعٌ آخَرُ
يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْعَرَبِيَّةِ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: ”أَخْشَى عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ الْعَرَبِيَّةَ أَنْ يَدْخُلَ فِي قَوْلِهِ: «مَنْ كَذَبَ عَلِيٍّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَلْحَنُ، فَمَهْمَا رَوَيْتَ عَنْهُ، وَلَحَنْتَ فِيهِ كَذَبْتَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا التَّصْحِيفُ، فَدَوَاؤُهُ أَنْ يَتَلَقَّاهُ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَشَايِخِ الضَّابِطِينَ وَاللَّهُ وَالْمُوَفِّقُ.
وَأَمَّا إِذَا لَحَنَ الشَّيْخُ، فَالصَّوَابُ أَنْ يَرْوِيَهُ السَّامِعُ عَلَى الصَّوَابِ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَالْجُمْهُورِ وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَأَبِي مَعْمَرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَخْبَرَةَ أَنَّهُمَا قَالَا: يَرْوِيهِ كَمَا سَمِعَهُ مِنَ الشَّيْخِ مَلْحُونًا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا غُلُوٌّ فِي مَذْهَبِ اتِّبَاعِ اللَّفْظِ.
وَعَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ أَنَّ الَّذِي اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ عَمَلُ أَكْثَرِ الْأَشْيَاخِ أَنْ يَنْقُلُوا الرِّوَايَةَ كَمَا وَصَلَتْ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُغَيِّرُوهَا فِي كُتُبِهِمْ، حَتَّى فِي أَحْرُفٍ مِنَ الْقُرْآنِ، اسْتَمَرَّتْ الرِّوَايَةُ فِيهَا عَلَى خِلَافِ التِّلَاوَةِ، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَجِيءَ ذَلِكَ فِي الشَّوَاذِّ، كَمَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحِ وَالْمُوَطَّأِ.
لَكِنَّ أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ مِنْهُ يُنَبِّهُونَ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ السَّمَاعِ وَفِي الْحَوَاشِي، وَمِنْهُمْ مَنْ جَسَرَ عَلَى تَغْيِيرِ الْكُتُبِ وَإِصْلَاحِهَا، مِنْهُمْ أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ أَحْمَدَ الْكِنَانِيُّ الْوَقْشِيُّ، لِكَثْرَةِ مُطَالَعَتِهِ وَافْتِنَانِهِ قَالَ: وَقَدْ غَلِطَ فِي أَشْيَاءَ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِمَّنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُ.
قَالَ: وَالْأَوْلَى سَدُّ بَابِ التَّغْيِيرِ وَالْإِصْلَاحِ، لِئَلَّا يَجْسُرَ عَلَى ذَلِكَ مَنْ لَا يُحْسِنُ، وَيُنَبِّهَ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ السَّمَاعِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يُصْلِحُ اللَّحْنَ الْفَاحِشَ، وَيَسْكُتُ عَنِ الْخَفِيِّ السَّهْلِ.
(قُلْتُ): وَمِنْ النَّاسِ (مَنْ) إِذَا سَمِعَ الْحَدِيثَ مَلْحُونًا عَنْ الشَّيْخِ تَرَكَ رِوَايَتَهُ; لِأَنَّهُ إِنْ تَبِعَهُ فِي ذَلِكَ، فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَلْحَنُ فِي كَلَامِهِ، وَإِنْ رَوَاهُ عَنْهُ عَلَى الصَّوَابِ، فَلَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ كَذَلِكَ.
فَرْعٌ
وَإِذَا سَقَطَ مِنَ السَّنَدِ أَوْ الْمَتْنِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ، فَلَا بَأْسَ بِإِلْحَاقِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا انْدَرَسَ بَعْضُ الْكِتَابِ، فَلَا بَأْسَ بِتَجْدِيدِهِ عَلَى الصَّوَابِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {والله يعلم المفسد من المصلح}.
فَرْعٌ آخَرُ
وَإِذَا رُوِيَ الْحَدِيثُ عَنْ شَيْخَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَبَيْنَ أَلْفَاظِهِمْ تَبَايُنٌ فَإِنْ رَكَّبَ السِّيَاقَ مِنَ الْجَمِيعِ، كَمَا فَعَلَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ، حِينَ رَوَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةَ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عَائِشَةَ، وَقَالَ: ”كُلُّ حَدَّثَنِي طَائِفَةٌ مِنَ الْحَدِيثِ، فَدَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ” وَسَاقَهُ بِتَمَامِهِ، فَهَذَا سَائِغٌ، فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ قَدْ تَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ، وَخَرَّجُوهُ فِي كُتُبِهِمْ الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا.
وَلِلرَّاوِي أَنْ يُبَيِّنَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَنْ الْأُخْرَى، وَيَذْكُرَ مَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ، وَتَحْدِيثٍ وَإِخْبَارٍ وَإِنْبَاءٍ وَهَذَا مِمَّا يُعْنَى بِهِ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَيُبَالِغُ فِيهِ، وَأَمَّا الْبُخَارِيُّ فَلَا يُعَرِّجُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، وَرُبَّمَا تَعَاطَاهُ فِي بَعْضِ الْأَحَايِينِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَهُوَ نَادِرٌ.
فَرْعٌ آخَرُ
وَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي نَسَبِ الرَّاوِي، إِذَا بَيَّنَ أَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ عِنْدِهِ وَهَذَا مَحْكِيٌّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَجُمْهُورِ الْمُحَدِّثِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ آخَرُ
جَرَتْ عَادَةُ الْمُحَدِّثِينَ إِذَا قَرَءُوا يَقُولُونَ أَخْبَرَنَا فُلَانٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا فُلَانٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا فُلَانٌ”، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْذِفُ لَفْظَةَ ”قَالَ”، وَهُوَ سَائِغٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ.
وَمَا كَانَ مِنَ الْأَحَادِيثِ بِإِسْنَادٍ وَاحِدٍ، كَنُسْخَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَبَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَهُ إِعَادَةُ الْإِسْنَادِ عِنْدَ كُلِّ حَدِيثٍ، وَلَهُ أَنْ يَذْكُرَ الْإِسْنَادَ عِنْدَ أَوَّلِ حَدِيثٍ مِنْهَا، ثُمَّ يَقُولُ ”وَبِالْإِسْنَادِ” أَوْ ”وَبِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَذَا وَكَذَا”، ثُمَّ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ كَمَا سَمِعَهُ، وَلَهُ أَنْ يَذْكُرَ عِنْدَ كُلِّ حَدِيثٍ الْإِسْنَادَ.
(قُلْتُ): وَالْأَمْرُ فِي هَذَا قَرِيبٌ سَهْلٌ يَسِيرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا إِذَا قَدَّمَ ذِكْرَ الْمَتْنِ عَلَى الْإِسْنَادِ كَمَا إِذَا قَالَ ”قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا وَكَذَا” ثُمَّ قَالَ ”أَخْبَرَنَا بِهِ”، وَأَسْنَدَهُ فَهَلْ لِلرَّاوِي عَنْهُ أَنْ يُقَدِّمَ الْإِسْنَادَ أَوْ لَا وَيُتْبِعَهُ بِذِكْرِ مَتْنِ الْحَدِيثِ؟ فِيهِ خِلَافٌ، ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ ابْنُ الصَّلَاحِ.
وَالْأَشْبَهُ عِنْدِي جَوَازُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَلِهَذَا يُعِيدُ مُحَدِّثُو زَمَانِنَا إِسْنَادَ الشَّيْخِ بَعْدَ فَرَاغِ الْخَبَرِ; لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَسْمَعُ مِنْ أَثْنَائِهِ بِفَوْتٍ، فَيَتَّصِلُ لَهُ سَمَاعُ ذَلِكَ مِنَ الشَّيْخِ، وَلَهُ رِوَايَتُهُ عَنْهُ كَمَا يَشَاءُ، مِنْ تَقْدِيمِ إِسْنَادِهِ وَتَأْخِيرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
إِذَا رَوَى حَدِيثًا بِسَنَدِهِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِإِسْنَادٍ لَهُ آخَرَ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ ”مِثْلَهُ” أَوْ ”نَحْوَهُ”، وَهُوَ ضَابِطٌ مُحَرِّرٌ، فَهَلْ يَجُوزُ رِوَايَتُهُ لَفْظَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِإِسْنَادِ الثَّانِي؟ قَالَ شُعْبَةُ: لَا، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: نَعَمْ، حَكَاهُ وَكِيعٌ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: يَجُوزُ فِي قَوْلِهِ ”مِثْلَهُ”، وَلَا يَجُوزُ فِي ”نَحْوِهِ”.
قَالَ الْخَطِيبُ: إِذَا قِيلَ بِالرِّوَايَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ ”مِثْلَهُ” أَوْ ”نَحْوَهُ”، وَمَعَ هَذَا أَخْتَارُ قَوْلَ ابْنِ مَعِينٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا إِذَا أَوْرَدَ السَّنَدَ وَذَكَرَ بَعْضَ الْحَدِيثِ ثُمَّ قَالَ: ”الْحَدِيثَ”، أَوْ ”الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ”، أَوْ ”بِطُولِهِ” أَوْ ”إِلَى آخِرِهِ”، كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ كَثِيرٍ مِنَ الرُّوَاةِ فَهَلْ لِلسَّامِعِ أَنَّ يَسُوقُ الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ عَلَى هَذَا الْإِسْنَادِ؟ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ بَعْضُهُمْ، وَمَنَعَ مِنْهُ آخَرُونَ، مِنْهُمْ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ الْفَقِيهُ الْأُصُولِيُّ، وَسَأَلَ أَبُو بَكْرٍ البُرْقَانِيُّ شَيْخَهُ أَبَا بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيَّ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ الشَّيْخُ وَالْقَارِئُ يَعْرِفَانِ الْحَدِيثَ فَأَرْجُو أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ، وَالْبَيَانُ أَوْلَى.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ (قُلْتُ): وَإِذَا جَوَّزْنَا ذَلِكَ، فَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ يَكُونُ بِطَرِيقِ الْإِجَازَةِ الْأَكِيدَةِ الْقَوِيَّةِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُفَصَّلَ، فَيُقَالُ: إِنْ كَانَ قَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى الشَّيْخِ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَوْ فِي غَيْرِهِ، فَتَجُوزُ الرِّوَايَةِ، وَتَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَى شَيْءٍ قَدْ سَلَفَ بَيَانُهُ وَتَحَقَّقَ سَمَاعُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
إِبْدَالُ لَفْظِ ”الرَّسُولِ” ”بِالنَّبِيِّ” أَوْ ”النَّبِيِّ” ”بِالرَّسُولِ” قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَإِنْ جَازَتْ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى، يَعْنِي لِاخْتِلَافِ مَعْنَيَيْهِمَا، وَنَقَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يُشَدِّدُ فِي ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ فِي الْكِتَابِ ”النَّبِيِّ” فَكَتَبَ الْمُحَدِّثُ ”رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ” ضَرَبَ عَلَى ”رَسُولُ”، وَكَتَبَ ”النَّبِيُّ” قَالَ الْخَطِيبُ: وَهَذَا مِنْهُ اسْتِحْبَابٌ، فَإِنَّ مَذْهَبَهُ التَّرْخِيصُ فِي ذَلِكَ.
قَالَ صَالِحٌ: سَأَلْتُ أَبِي عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَرْجُو أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ عَفَّانَ وَبَهْزًا كَانَا يَفْعَلَانِ ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: لَهُمَا أَمَّا أَنْتُمَا فَلَا تَفْقَهَانِ أَبَدًا!!.
الرِّوَايَةُ فِي حَالِ الْمُذَاكَرَةِ
هَلْ تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِهَا؟ حَكَى ابْنُ الصَّلَاحِ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَبِي زُرْعَةَ، الْمَنْعَ مِنَ التَّحْدِيثِ بِهَا، لِمَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْمُسَاهَلَةِ، وَالْحِفْظُ خَوَّانٌ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَلِهَذَا امْتَنَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْلَامِ الْحُفَّاظِ مِنْ رِوَايَةِ مَا يَحْفَظُونَهُ إِلَّا مِنْ كُتُبِهِمْ، مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ قَالَ: فَإِذَا حَدَّثَ بِهَا فَلْيَقُلْ ”حَدَّثَنَا فُلَانٌ مُذَاكَرَةً”، أَوْ ”فِي الْمُذَاكَرَةِ”، وَلَا يُطْلِقُ ذَلِكَ، فَيَقَعُ فِي نَوْعٍ مِنَ التَّدْلِيسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ عَنِ اثْنَيْنِ، جَازَ ذِكْرُ ثِقَةٍ مِنْهُمَا وَإِسْقَاطُ الْآخَرِ، ثِقَةً كَانَ أَوْ ضَعِيفًا وَهَذَا صَنِيعُ مُسْلِمٍ فِي ابْنِ لَهِيعَةَ غَالِبًا وَأَمَّا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ فَلَا يُسْقِطُهُ، بَلْ يَذْكُرُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
النوع السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: آدَابُ الْمُحَدِّثِ
وَقَدْ أَلَّفَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي ذَلِكَ كِتَابًا سَمَّاهُ ”الْجَامِعُ لِآدَابِ الشَّيْخِ وَالسَّامِعِ”.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ ذَلِكَ مُهِمَّاتٌ فِي عُيُونِ الْأَنْوَاعِ الْمَذْكُورَةِ.
قَالَ ابْنُ خَلَّادٍ وَغَيْرُهُ: يَنْبَغِي لِلشَّيْخِ أَنْ لَا يَتَصَدَّى لِلْحَدِيثِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِكْمَالِ خَمْسِينَ سَنَةً، وَقَالَ: غَيْرُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقَدْ أَنْكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ ذَلِكَ، بِأَنَّ أَقْوَامًا حَدَّثُوا قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ، بَلْ قَبْلَ الثَّلَاثِينَ مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، ازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَكَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِهِ أَحْيَاءٌ.
قَالَ ابْنُ خَلَّادٍ: فَإِذَا بَلَغَ الثَّمَانِينَ أَحْبَبْتَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اخْتَلَطَ.
وَقَدْ اسْتَدْرَكُوا عَلَيْهِ بِأَنْ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ حَدَّثُوا بَعْدَ هَذَا السِّنِّ، مِنْهُمْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى، وَخَلْقٌ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، وَقَدْ حَدَّثَ آخَرُونَ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ مِائَةِ سَنَةٍ، مِنْهُمْ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، وَأَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الهُجَيْمِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ- أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ- وَجَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ.
لَكِنْ إِذَا كَانَ الِاعْتِمَادِ عَلَى حِفْظِ الشَّيْخِ الرَّاوِي، فَيَنْبَغِي الِاحْتِرَازُ مِنْ اخْتِلَاطِهِ إِذَا طَعَنَ فِي السِّنِّ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الِاعْتِمَادُ عَلَى حِفْظِ غَيْرِهِ وَحِفْظِهِ وَضَبْطِهِ، فَهَا هُنَا كُلَّمَا كَانَ السِّنُّ عَالِيًا كَانَ النَّاسُ أَرْغَبَ فِي السَّمَاعِ عَلَيْهِ كَمَا اتَّفَقَ لِشَيْخِنَا أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْحَجَّارِ، فَإِنَّهُ جَاوَزَ الْمِائَةَ مُحَقَّقًا، سَمَّعَ عَلَى الزَّبِيدِيِّ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ، وَأَسْمَعَهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَسَبْعِ مِائَةٍ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا عَامِّيًّا، لَا يَضْبِطُ شَيْئًا، وَلَا يَتَعَقَّلُ كَثِيرًا مِنَ الْمَعَانِي الظَّاهِرَةِ، وَمَعَ هَذَا تَدَاعَى النَّاسُ إِلَى السَّمَاعِ مِنْهُ عِنْدَ تَفَرُّدِهِ عَنِ الزَّبِيدِيِّ، فَسَمِعَ مِنْهُ نَحْوٌ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ.
قَالُوا: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ جَمِيلَ الْأَخْلَاقِ حَسِنَ الطَّرِيقَةِ، صَحِيحَ النِّيَّةِ فَإِنْ عَزَبَتْ نِيَّتُهُ عَنِ الْخَيْرِ فَلْيَسْمَعْ، فَإِنَّ الْعِلْمَ يُرْشِدُ إِلَيْهِ، قَالَ: بَعْضُ السَّلَفِ طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَأَبَى أَنْ يَكُونَ إِلَّا لِلَّهِ.
وَقَالُوا: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَدِّثَ بِحَضْرَةِ مَنْ هُوَ أَوْلَى سِنًّا أَوْ سَمَاعًا.
بَلْ كَرِهَ بَعْضُهُمْ التَّحْدِيثَ، لِمَنْ فِي الْبَلَدِ أَحَقَّ مِنْهُ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ وَيُرْشِدَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ.
قَالُوا: لَا يَنْبَغِي عَقْدُ مَجْلِسِ التَّحْدِيثِ، وَلْيَكُنْ الْمُسْمِعُ عَلَى أَكْمَلِ الْهَيْئَاتِ، كَمَا كَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إِذَا حَضَرَ مَجْلِسَ التَّحْدِيثِ، تَوَضَّأَ، وَرُبَّمَا اغْتَسَلَ، وَتَطَيَّبَ،وَلَبِسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ، وَعَلَاهُ الْوَقَارُ وَالْهَيْبَةُ، وَتَمَكَّنَ فِي جُلُوسِهِ، وَزَبَرَ مَنْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ.
وَيَنْبَغِي افْتِتَاحُ ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ (شَيْءٍ) مِنَ الْقُرْآنِ، تَبَرُّكًا وَتَيَمُّنًا بِتِلَاوَتِهِ، ثُمَّ بَعْدَهُ التَّحْمِيدُ الْحَسِنُ التَّامُّ، وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلْيَكُنْ الْقَارِئُ حَسِنَ الصَّوْتِ، جَيِّدَ الْأَدَاءِ، فَصِيحَ الْعِبَارَةِ، وَكُلَّمَا مَرَّ بِذِكْرِ النَّبِيِّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْخَطِيبُ: وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِذَلِكَ، وَإِذَا مَرَّ بِصِحَابِيٍّ تَرَضَّى عَنْهُ.
وَحَسُنَ أَنْ يُثْنِيَ عَلَى شَيْخِهِ، كَمَا كَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ حَدَّثَنِي الْحَبْرُ الْبَحْرُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَانَ وَكِيعٌ يَقُولُ حَدَّثَنِي سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَذْكُرَ أَحَدًا بِلَقَبٍ يَكْرَهُهُ، فَأَمَّا لَقَبٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ فَلَا بَأْسَ.
النوع الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: آدَابُ طَالِبِ الْحَدِيثِ
يَنْبَغِي لَهُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ، إِخْلَاصُ النِّيَّةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا يُحَاوِلُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَكُنْ قَصْدُهُ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْمُهِمَّاتِ الزَّجْرِ الشَّدِيدِ وَالتَّهْدِيدِ الْأَكِيدِ عَلَى ذَلِكَ.
وَلْيُبَادِرْ إِلَى سَمَاعِ الْعَالِي فِي بَلَدِهِ، فَإِذَا اسْتَوْعَبَ ذَلِكَ انْتَقَلَ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِ، أَوْ إِلَى أَعْلَى مَا يُوجَدُ فِي الْبُلْدَانِ، وَهُوَ الرِّحْلَةُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْمُهِمَّاتِ مَشْرُوعِيَّةَ ذَلِكَ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ- رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ-: إِنَّ اللَّهَ لَيَدْفَعُ الْبَلَاءَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِرِحْلَةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ.
قَالُوا: وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَا يُمْكِنُهُ مِنْ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَحَادِيثِ.
كَانَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ الْحَافِي يَقُولُ يَا أَصْحَابَ الْحَدِيثِ أَدُّوا زَكَاةَ الْحَدِيثَ، مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ حَدِيثٍ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ المُلَائِيُّ: إِذَا بَلَغَكَ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ فَاعْمَلْ بِهِ وَلَوْ مَرَّةً، تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ.
قَالَ وَكِيعٌ: إِذَا أَرَدْتَ حِفْظَ الْحَدِيثِ فَاعْمَلْ بِهِ.
قَالُوا وَلَا يُطَوِّلُ عَلَى الشَّيْخِ فِي السَّمَاعِ حَتَّى يُضْجِرَهُ قَالَ الزُّهْرِيُّ إِذَا طَالَ الْمَجْلِسُ كَانَ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَصِيبٌ.
وَلْيُفِدْ غَيْرَهُ مِنَ الطَّلَبَةِ، وَلَا يَكْتُمُ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ، فَقَدْ جَاءَ الزَّجْرُ عَنْ ذَلِكَ.
قَالُوا: وَلَا يَسْتَنْكِفُ أَنْ يَكْتُبَ عَمَّنْ هُوَ دُونَهُ فِي الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ
قَالَ وَكِيعٌ: لَا يَنْبُلُ الرَّجُلُ حَتَّى يَكْتُبَ عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُ، وَمَنْ هُوَ مِثْلَهُ، وَمَنْ هُوَ دُونَهُ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَلَيْسَ بِمُوَفَّقٍ مَنْ ضَيَّعَ شَيْئًا مِنْ وَقْتِهِ فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الشُّيُوخِ، لِمُجَرَّدِ الْكَثْرَةِ وَصِيتِهَا قَالَ: وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ إِذَا كَتَبْتَ فَقَمِّشْ، وَإِذَا حَدَّثْتَ فَفَتِّشْ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: ثُمَّ لَا يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْحَدِيثِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مُجَرَّدِ سَمَاعِهِ وَكُتُبِهِ، مِنْ غَيْرِ فَهْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، فَيَكُونُ قَدْ أَتْعَبَ نَفْسَهُ، وَلَمْ يَظْفَرْ بِطَائِلٍ.
ثُمَّ حَثَّ عَلَى سَمَاعِ الْكُتُبِ الْمُفِيدَةِ مِنَ الْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ وَغَيْرِهَا.
النوع التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ الْإِسْنَادِ الْعَالِي وَالنَّازِلِ
وَلَمَّا كَانَ مَعْرِفَةُ الْإِسْنَادِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ يُمْكِنُهَا أَنْ تُسْنِدَ عَنْ نَبِيِّهَا إِسْنَادًا مُتَّصِلًا غَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
فَلِهَذَا كَانَ طَلَبُ الْإِسْنَادِ الْعَالِي مُرَغَّبًا فِيهِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: الْإِسْنَادُ الْعَالِي سُنَّةٌ عَمَّنْ سَلَفَ.
وَقِيلَ لِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ مَا تَشْتَهِي؟ قَالَ: بَيْتٌ خَالِي، وَإِسْنَادٌ عَالِي.
وَلِهَذَا تَدَاعَتْ رَغَبَاتُ كَثِيرٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ النُّقَّادِ، وَالْجَهَابِذَةِ الْحُفَّاظِ إِلَى الرِّحْلَةِ إِلَى أَقْطَارِ الْبِلَادِ، طَلَبًا لِعُلُوِّ الْإِسْنَادِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ مَنَعَ مِنْ جَوَازِ الرِّحْلَةِ بَعْضُ الْجَهَلَةِ مِنَ الْعُبَّادِ، فِيمَا حَكَاهُ الرَّامَهُرْمَزِيُّ فِي كِتَابِهِ الْفَاصِلِ.
ثُمَّ إِنَّ عُلُوَّ الْإِسْنَادِ أَبَعْدُ مِنَ الْخَطَأِ وَالْعِلَّةِ مِنْ نُزُولِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: كُلَّمَا طَالَ الْإِسْنَادُ كَانَ النَّظَرُ فِي التَّرَاجِمِ وَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ أَكْثَرَ، فَيَكُونُ الْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ، وَهَذَا لَا يُقَابِلُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْعُلُوِّ مَا كَانَ قَرِيبًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
فَأَمَّا الْعُلُوُّ بِقُرْبِهِ إِلَى إِمَامٍ حَافِظٍ، أَوْ مُصَنِّفٍ، أَوْ بِتَقَدُّمِ السَّمَاعِ فَتِلْكَ أُمُورٌ نِسْبِيَّةٌ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِوٍ هَاهُنَا عَلَى (الْمُوَافَقَةِ)، وَهِيَ انْتِهَاءُ الْإِسْنَادِ إِلَى شَيْخِ مُسْلِمٍ مَثَلًا (وَالْبَدَلُ)، وَهُوَ انْتِهَاؤُهُ إِلَى شَيْخِ شَيْخِهِ أَوْ مِثْلِ شَيْخِهِ (وَالْمُسَاوَاةُ) وَهُوَ أَنْ تُسَاوِيَ فِي إِسْنَادِك الْحَدِيثَ لِمُصَنَّفٍ (وَالْمُصَافَحَةُ) وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ نُزُولِكَ عَنْهُ بِدَرَجَةٍ حَتَّى كَأَنَّهُ صَافَحَك بِهِ وَسَمِعْتَهُ مِنْهُ.
وَهَذِهِ الْفُنُونُ تُوجَدُ كَثِيرًا فِي كَلَامِ الْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُ، قَدْ صَنَّفَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي ذَلِكَ مُجَلَّدَاتٍ وَعِنْدِي أَنَّهُ نَوْعٌ قَلِيلُ الْجَدْوَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَقِيَّةِ الْفُنُونِ.
فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْعَالِيَ مِنَ الْإِسْنَادِ مَا صَحَّ سَنَدُهُ، وَإِنْ كَثُرَتْ رِجَالُهُ، فَهَذَا اصْطِلَاحٌ خَاصٌّ، وَمَاذَا يَقُولُ هَذَا الْقَائِلُ فِيمَا إِذَا صَحَّ الْإِسْنَادَانِ، لَكِنْ أَقْرَبَ رِجَالًا؟ وَهَذَا الْقَوْلُ مَحْكِيٌّ عَنِ الْوَزِيرِ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَعَنِ الْحَافِظِ السَّلَفِيِّ.
وَأَمَّا النُّزُولُ فَهُوَ ضِدُّ الْعُلُوِّ، وَهُوَ مَفْضُولٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعُلُوِّ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رِجَالُ الْإِسْنَادِ النَّازِلِ أَجَلَّ مِنْ رِجَالِ الْعَالِي، وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ ثِقَاتٍ.
كَمَا قَالَ وَكِيعٌ لِأَصْحَابِهِ: أَيُّمَا أَحَبُّ إِلَيْكُمْ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَوْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ؟ فَقَالُوا: الْأَوَّلِ، فَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، شَيْخٌ عَنْ شَيْخٍ، وَسُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقِيهٌ عَنْ فَقِيهٍ، وَحَدِيثٌ يَتَدَاوَلُهُ الْفُقَهَاءُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّا يَتَدَاوَلُهُ الشُّيُوخُ.
النوع الثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ الْمَشْهُورِ
وَالشُّهْرَةُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ، فَقَدْ يَشْتَهِرُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَوْ يَتَوَاتَرُ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ.
ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الْمَشْهُورُ مُتَوَاتِرًا أَوْ مُسْتَفِيضًا، وَهُوَ مَا زَادَ نَقَلَتَهُ عَلَى ثَلَاثَةٍ.
وَعَنْ الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّ الْمُسْتَفِيضَ أَقْوَى مِنَ الْمُتَوَاتِرِ وَهَذَا اصْطِلَاحٌ مِنْهُ.
وَقَدْ يَكُونُ الْمَشْهُورُ صَحِيحًا، كَحَدِيثِ ”الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَحَسَنًا.
وَقَدْ يَشْتَهِرُ بَيْنَ النَّاسِ أَحَادِيثُ لَا أَصْلَ لَهَا، أَوْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ بِالْكُلِّيَّةِ وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا، وَمَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِ الْمَوْضُوعَاتِ لِأَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ عَرَفَ ذَلِكَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ تَدُورُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْأَسْوَاقِ لَا أَصْلَ لَهَا «”مَنْ بَشَّرَنِي بِخُرُوجِ آذَارَ بَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ”» و«”مَنْ آذَى ذِمِّيًّا فَأَنَا خَصْمُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”» و«”نَحْرُكُمْ يَوْمَ صَوْمِكُمْ”» و«”لِلسَّائِلِ حَقٌّ، وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ”».
النوع الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ الْغَرِيبِ مِنَ الْعَزِيزِ
أَمَّا الْغَرَابَةُ فَقَدْ تَكُونُ فِي الْمَتْنِ، بِأَنْ يَتَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ رَاوٍ وَاحِدٌ، أَوْ فِي بَعْضِهِ، كَمَا إِذَا زَادَ فِيهِ وَاحِدٌ زِيَادَةً لَمْ يَقُلْهَا غَيْرُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي زِيَادَةِ الثِّقَةِ.
وَقَدْ تَكُونُ الْغَرَابَةُ فِي الْإِسْنَادِ، كَمَا إِذَا كَانَ أَصْلُ الْحَدِيثِ مَحْفُوظًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَوْ وُجُوهٍ، وَلَكِنَّهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ غَرِيبٌ.
فَالْغَرِيبُ مَا تَفَرَّدَ بِهِ وَاحِدٌ، وَقَدْ يَكُونُ ثِقَةً، وَقَدْ يَكُونُ ضَعِيفًا، وَلِكُلٍّ حُكْمُهُ.
فَإِنْ اشْتَرَكَ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ الشَّيْخِ، سُمِّيَ ”عَزِيزًا”، فَإِنْ رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ، سُمِّيَ ”مَشْهُورًا”، كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
النوع الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ غَرِيبِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ
وَهُوَ مِنَ الْمُهِمَّاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِفَهْمِ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِهِ، لَا بِمَعْرِفَةِ صِنَاعَةِ الْإِسْنَادِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ.
قَالَ الْحَاكِمُ: أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فِي ذَلِكَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى.
وَأَحْسَنُ شَيْءٍ وُضِعَ فِي ذَلِكَ كِتَابُ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ، وَقَدْ اسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَشْيَاءَ، وَتَعَقَّبَهُمَا الْخَطَّابِيُّ، فَأَوْرَدَ زِيَادَاتٍ.
وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ الْمُتَقَدِّمُ، وَسَلِيمٌ الرَّازِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَأَجَلُّ كِتَابٍ يُوجَدُ فِيهِ مَجَامِعُ ذَلِكَ كِتَابُ (الصِّحَاحِ) لِلْجَوْهَرِيِّ وَكِتَابُ (النِّهَايَةِ) لِابْنِ الْأَثِيرِ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
النوع الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ الْمُسَلْسَلِ
وَقَدْ يَكُونُ فِي صِفَةِ الرِّوَايَةِ، كَمَا إِذَا قَالَ كُلٌّ مِنْهُمْ ”سَمِعْتُ”، أَوْ ”حَدَّثَنَا”، أَوْ ”أَخْبَرَنَا”، وَنَحْوَ ذَلِكَ أَوْ فِي صِفَةِ الرَّاوِي، بِأَنْ يَقُولَ حَالَةَ الرِّوَايَةِ قَوْلًا قَدْ قَالَهُ شَيْخُهُ لَهُ، أَوْ يَفْعَلُ فِعْلًا فَعَلَ شَيْخُهُ مِثْلَهُ.
ثُمَّ قَدْ يَتَسَلْسَلُ الْحَدِيثُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، وَقَدْ يَنْقَطِعُ بَعْضُهُ مِنْ أَوَّلِهِ أَوْ آخِرِهِ.
وَفَائِدَةُ التَّسَلْسُلِ بُعْدُهُ مِنْ التَّدْلِيسِ وَالِانْقِطَاعِ وَمَعَ هَذَا قَلَّمَا يَصِحُّ حَدِيثٌ بِطَرِيقٍ مُسَلْسَلٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
النوع الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ نَاسِخِ الْحَدِيثِ وَمَنْسُوخِهِ
وَهَذَا الْفَنُّ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ هَذَا الْكِتَابِ، بَلْ هُوَ بِأُصُول الْفِقْهِ أَشْبَهُ.
وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ كُتُبًا كَثِيرَةً مُفِيدَةً، مِنْ أَجَلِّهَا كِتَابُ الْحَافِظِ الْفَقِيهِ أَبِي بَكْرٍ الْحَازِمِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ كَانَتْ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْيَدُ الطُولى، كَمَا وَصَفَهُ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ.
ثُمَّ النَّاسِخُ قَدْ يُعْرَفُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كَقَوْلِهِ: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا» وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَدْ يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّأْرِيخِ وَعِلْمِ السِّيرَةِ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا سَلَكَهُ الشَّافِعِيُّ فِي حَدِيثِ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» وَذَلِكَ قَبْلَ الْفَتْحِ، فِي شَأْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ قُتِلَ بِمُؤْتَةَ، قَبْلَ الْفَتْحِ بِأَشْهُرٍ، وَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ» وَإِنَّمَا أَسْلَمَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَ أَبِيهِ فِي الْفَتْحِ.
فَأَمَّا قَوْلُ الصَّحَابِيِّ ”هَذَا نَاسِخٌ لِهَذَا”، فَلَمْ يَقْبَلْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى نَوْعٍ مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَقَدْ يُخْطِئُ فِيهِ، وَقَبِلُوا قَوْلَهُ ”هَذَا كَانَ قَبْلَ هَذَا”; لِأَنَّهُ نَاقِلٌ وَهُوَ ثِقَةٌ مَقْبُولُ الرِّوَايَةِ.
النوع الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ ضَبْطِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ مَتْنًا وَإِسْنَادًا وَالِاحْتِرَازُ مِنْ التَّصْحِيفِ فِيهَا
فَقَدْ وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ كَثِيرٌ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْحُفَّاظِ وَغَيْرِهِمْ، مِمَّنْ تَرَسَّمَ بِصِنَاعَةِ الْحَدِيثِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَقَدْ صَنَّفَ الْعَسْكَرِيُّ فِي ذَلِكَ مُجَلَّدًا كَبِيرًا.
وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ ذَلِكَ لِمَنْ أَخَذَ مِنْ الصُّحُفِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْخٌ حَافِظٌ يُوقِفُهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَمَا يَنْقُلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّهُ كَانَ يُصَحِّفُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فَغَرِيبٌ جِدًّا; لِأَنَّ لَهُ كِتَابًا فِي التَّفْسِيرِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُ أَشْيَاءُ لَا تَصْدُرُ عَنْ صِبْيَانِ الْمَكَاتِبِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ لِبَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ مِنْ ذَلِكَ، فَمِنْهُ مَا يَكَادُ اللَّبِيبُ يَضْحَكُ مِنْهُ، كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ جَمَعَ طُرُقَ حَدِيثِ: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟» ثُمَّ أَمْلَاهُ فِي مَجْلِسِهِ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنَ النَّاسِ فَجَعَلَ يَقُولُ يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ البَعِيرُ!، فَافْتُضِحَ عِنْدَهُمْ، وَأَرَّخُوهَا عَنْهُ!!.
وَكَذَا اتَّفَقَ لِبَعْضِ مُدَرِّسِي النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ أَنَّهُ أَوَّلَ يَوْمِ إِجْلَاسِهِ أَوْرَدَ حَدِيثَ: «صَلَاةٌ فِي إِثْرِ صَلَاةٍ كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ» فَقَالَ: كِنَازٍ فِي غَلَسٍ! فَلَمْ يَفْهَمْ الْحَاضِرُونَ مَا يَقُولُ، حَتَّى أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ تَصَحَّفَ عَلَيْهِ كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ!!.
وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ الصَّلَاحِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً.
وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْكَبِيرُ الْجَهْبَذُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ- تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ- مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ هَذَا الْمَقَامِ، وَمِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ أَدَاءً لِلْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ، بَلْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ- فِيمَا نَعْلَمُ- مِثْلُهُ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَيْضًا وَكَانَ إِذَا تَغَرَّبَ عَلَيْهِ أَحَدٌ بِرِوَايَةِ (شَيْءٍ) مِمَّا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ عَلَى خِلَافِ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُ، يَقُولُ هَذَا مِنَ التَّصْحِيفِ الَّذِي لَمْ يَقِفْ صَاحِبُهُ إِلَّا عَلَى مُجَرَّدِ الصُّحُفِ وَالْأَخْذِ مِنْهَا.
النوع السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ مُخْتَلِفِ الْحَدِيثِ
وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ فَصْلًا طَوِيلًا مِنْ كِتَابِهِ ”الْأُمِّ” نَحْوًا مِنْ مُجَلَّدٍ.
وَكَذَلِكَ ابْنُ قُتَيْبَةَ، لَهُ فِيهِ مُجَلَّدٌ مُفِيدٌ وَفِيهِ مَا هُوَ غَثٌّ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ.
وَالتَّعَارُضُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ، كَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، فَيُصَارُ إِلَى النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَقَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ، وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ لِبَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَيَتَوَقَّفُ حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ وَجْهُ التَّرْجِيحِ بِنَوْعٍ مِنْ أَقْسَامِهِ، أَوْ يَهْجُمُ فَيُفْتِي بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ يُفْتِي بِهَذَا فِي وَقْتٍ، وَبِهَذَا فِي وَقْتٍ، كَمَا يَفْعَلُ أَحْمَدُ فِي الرِّوَايَاتِ عَنِ الصَّحَابَةِ.
وَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ خُزَيْمَةَ يَقُولُ لَيْسَ ثَمَّ حَدِيثَانِ مُتَعَارِضَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ; وَمَنْ وَجَدَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلْيَأْتِنِي لِأُؤَلِّفَ لَهُ بَيْنَهُمَا.
النوع السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ
وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ رَاوٍ فِي الْإِسْنَادِ رَجُلًا لَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ وَهَذَا يَقَعُ كَثِيرًا فِي أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ وَقَدْ صَنَّفَ الْحَافِظُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي ذَلِكَ كِتَابًا حَافِلًا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَفِي بَعْضِ مَا ذَكَرَهُ نَظَرٌ.
وَمَثَّلَ ابْنُ الصَّلَاحِ هَذَا النَّوْعَ بِمَا رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ حَدَّثَنِي بُسْرٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ سَمِعْتَ أَبَا إِدْرِيسَ يَقُولُ سَمِعْتُ وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ سَمِعْتَ أَبَا مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ يَقُولُ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ، وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا» وَرَوَاهُ آخَرُونَ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، فَلَمْ يَذْكُرُوا سُفْيَانَ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ وَهِمَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي إِدْخَالِهِ أَبَا إِدْرِيسَ فِي الْإِسْنَادِ وَهَاتَانِ زِيَادَتَانِ.
النوع الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ الْخَفِيِّ مِنَ الْمَرَاسِيلِ
وَهُوَ يَعُمُّ الْمُنْقَطِعَ وَالْمُعْضَلَ أَيْضًا وَقَدْ صَنَّفَ الْبَغْدَادِيُّ فِي ذَلِكَ كِتَابَهُ الْمُسَمَّى (بِالتَّفْصِيلِ لِمُبْهَمِ الْمَرَاسِيلِ)
وَهَذَا النَّوْعُ إِنَّمَا يُدْرِكُهُ نُقَّادُ الْحَدِيثِ وَجَهَابِذَتُهُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ إِمَامًا فِي ذَلِكَ، وَعَجَبًا مِنَ الْعَجَبِ- فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَبَلَّ بِالْمَغْفِرَةِ ثَرَاهُ.
فَإِنَّ الْإِسْنَادَ إِذَا عُرِضَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِمَّنْ لَمْ يُدْرِكْ ثِقَاتِ الرِّجَالِ وَضُعَفَاءَهُمْ، قَدْ يَغْتَرُّ بِظَاهِرِهِ، وَيَرَى رِجَالَهُ ثِقَاتٍ، فَيَحْكُمُ بِصِحَّتِهِ، وَلَا يَهْتَدِي لِمَا فِيهِ مِنْ الِانْقِطَاعِ، أَوْ الْإِعْضَالِ، أَوْ الْإِرْسَالِ; لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُمَيِّزُ الصَّحَابِيَّ مِنْ التَّابِعِيِّ وَاللَّهُ الْمُلْهِمُ لِلصَّوَابِ.
وَمَثَّلَ هَذَا النَّوْعَ ابْنُ الصَّلَاحِ بِمَا رَوَى الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَالَ بِلَالٌ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ نَهَضَ وَكَبَّرَ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَمْ يَلْقَ الْعَوَّامُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى، يَعْنِي فَيَكُونُ مُنْقَطِعًا بَيْنَهُمَا، فَيَضْعُفُ الْحَدِيثُ، لِاحْتِمَال أَنَّهُ رَوَاهُ عَنْ رَجُلٍ ضَعِيفٍ عَنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
النوع التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ
وَالصَّحَابِيُّ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَالِ إِسْلَامِ الرَّائِي، وَإِنْ لَمْ تَطُلْ صُحْبَتُهُ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ شَيْئًا هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، خَلَفًا وَسَلَفًا.
وَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الرُّؤْيَةِ كَافٍ فِي إِطْلَاقِ الصُّحْبَةِ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو زُرْعَةَ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ، كَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَابْنُ مَنْدَهْ وَأَبِي مُوسَى الْمَدِينِيِّ، وَابْنُ الْأَثِيرِ فِي كِتَابِهِ ”الْغَابَةُ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ”، وَهُوَ أَجْمَعُهَا وَأَكْثَرُهَا فَوَائِدَ وَأَوْسَعُهَا- أَثَابَهُمْ اللَّهُ أَجْمَعِينَ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَقَدْ شَانَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كِتَابَهُ ”الِاسْتِيعَابُ” بِذِكْرِ مَا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ مِمَّا تَلَقَّاهُ مِنْ كُتُبِ الْأَخْبَارِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ آخَرُونَ: لَا بُدَّ مِنْ إِطْلَاقِ الصُّحْبَةِ مَعَ الرُّؤْيَةِ أَنْ يَرْوِيَ حَدِيثًا أَوْ حَدِيثَيْنِ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَصْحَبَهُ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ، أَوْ يَغْزُوَ مَعَهُ غَزْوَةً أَوْ غَزْوَتَيْنِ وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ مُوسَى السَّبْلَانِيِّ- وَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا، قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: هَلْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ غَيْرُكَ؟ قَالَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ رَأَوْهُ، فَأَمَّا مَنْ صَحِبَهُ فَلَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِحَضْرَةِ أَبِي زُرْعَةَ.
وَهَذَا إِنَّمَا نَفَى فِيهِ الصُّحْبَةَ الْخَاصَّةَ، وَلَا يَنْفِي مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّ مُجَرَّدَ الرُّؤْيَةِ كَافٍ فِي إِطْلَاقِ الصُّحْبَةِ، لِشَرَفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَالَةِ قَدْرِهِ وَقَدْرِ مَنْ رَآهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلِهَذَا جَاءَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ: «تَغْزُونَ فَيُقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَكُمْ حَتَّى ذَكَرَ مَنْ رَأَى مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» الْحَدِيثُ بِتَمَامِهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ، فِي مُعَاوِيَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِيَوْمٍ شَهِدَهُ مُعَاوِيَةُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرٌ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ.
فَرْعٌ
وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لِمَا أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَبِمَا نَطَقَتْ بِهِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ فِي الْمَدْحِ لَهُمْ فِي جَمِيعِ أَخْلَاقِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَمَا بَذَلُوهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَرْوَاحُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، رَغْبَةً فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ، وَالْجَزَاءِ الْجَمِيلِ.
وَأَمَّا مَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ بَعْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَمِنْهُ مَا وَقَعَ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ، كَيَوْمِ الْجَمَلِ، وَمِنْهُ مَا كَانَ عَنْ اجْتِهَادٍ، كَيَوْمِ صِفِّينَ وَالِاجْتِهَادُ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَلَكِنَّ صَاحِبَهُ مَعْذُورٌ، وَإِنْ أَخْطَأَ، وَمَأْجُورٌ أَيْضًا، وَأَمَّا الْمُصِيبُ فَلَهُ أَجْرَانِ اثْنَانِ، وَكَانَ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ الصَّحَابَةُ عُدُولٌ إِلَّا مَنْ قَاتَلَ عَلِيًّا: قَوْلٌ بَاطِلٌ مَرْذُولٌ وَمَرْدُودٌ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ عَنِ ابْنِ بِنْتِهِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَكَانَ مَعَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ».
وَظَهَرَ مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي نُزُولِ الْحَسَنِ لِمُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَمْرِ، بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ عَلِيٍّ، وَاجْتَمَعَتْ الْكَلِمَةُ عَلَى مُعَاوِيَةَ، وَسُمِّيَ ”عَامَ الْجَمَاعَةِ” وَذَلِكَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ فَسَمَّى الْجَمِيعَ ”مُسْلِمِينَ” وَقَالَ تَعَالَى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} فَسَمَّاهُمْ ”مُؤْمِنِينَ” مَعَ الِاقْتِتَالِ.
وَمَنْ كَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ مَعَ مُعَاوِيَةَ? يُقَالُ لَمْ يَكُنْ فِي الْفَرِيقِ مِائَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَجَمِيعُهُمْ صَحَابَةٌ، فَهُمْ عُدُولٌ كُلُّهُمْ.
وَأَمَّا طَوَائِفُ الرَّوَافِضِ وَجَهْلُهُمْ وَقِلَّةُ عَقْلِهِمْ، وَدَعَاوِيهِمْ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَفَرُوا إِلَّا سَبْعَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا، وَسَمَّوْهُمْ فَهُوَ مِنَ الْهَذَيَانِ بِلَا دَلِيلٍ إِلَّا مُجَرَّدَ الرَّأْيِ الْفَاسِدِ، عَنْ ذِهْنٍ بَارِدٍ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَهُوَ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يُرَدَّ وَالْبُرْهَانُ عَلَى خِلَافِهِ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ، مِمَّا عُلِمَ مِنْ امْتِثَالِهِمْ أَوَامِرَهُ بَعْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَفَتْحِهِمْ الْأَقَالِيمَ وَالْآفَاقَ، وَتَبْلِيغِهِمْ عَنْهُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَهِدَايَتِهِمْ النَّاسَ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ، وَمُوَاظَبَتِهِمْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ، فِي سَائِرِ الْأَحْيَانِ وَالْأَوْقَاتِ، مَعَ الشَّجَاعَةِ وَالْبَرَاعَةِ، وَالْكَرَمِ وَالْإِيثَارِ، وَالْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ (فِي) أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَا يَكُونَ أَحَدٌ بَعْدَهُمْ مِثْلَهُمْ فِي ذَلِكَ- فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَلَعَنَ مَنْ يَتَّهِمُ الصَّادِقَ وَيُصَدِّقُ الْكَاذِبِينَ- آمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
وَأَفْضَلُ الصَّحَابَةِ، بَلْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ (أَبِي قُحَافَةَ) التَّيْمِيُّ، خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُمِّيَ بِالصَّدِيقِ لِمُبَادَرَتِهِ إِلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قَبْلَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الْإِيمَانِ إِلَّا كَانَتْ لَهُ كَبْوَةٌ، إِلَّا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَلَعْثَمْ» وَقَدْ ذَكَرْتُ سِيرَتَهُ وَفَضَائِلَهُ وَمُسْنَدَهُ وَالْفَتَاوَى عَنْهُ، فِي مُجَلَّدٍ عَلَى حِدَةٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، ثُمَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
هَذَا رَأْيُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ حِينَ جَعَلَ عُمَرُ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ، فَانْحَصَرَ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَاجْتَهَدَ فِيهِمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا، حَتَّى سَأَلَ النِّسَاءَ فِي خُدُورِهِنَّ، وَالصِّبْيَانَ فِي الْمَكَاتِبِ، فَلَمْ يَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ أَحَدًا، فَقَدَّمَهُ عَلَى عَلِيٍّ، وَوَلَّاهُ الْأَمْرَ قَبْلَهُ، وَلِهَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَصَدَقَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَجَعَلَ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ.
وَالْعَجَبُ أَنَّهُ ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ إِلَى تَقْدِيمِ عَلِيٍّ عَلَى عُثْمَانَ وَيُحْكَى عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، لَكِنْ يُقَالُ: إِنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ، وَنُقِلَ مِثْلُهُ عَنْ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ،وَنَصَرَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْخَطَّابِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مَرْدُودٌ بِمَا تَقَدَّمَ.
ثُمَّ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ ثُمَّ أَهْلُ بَدْرٍ، ثُمَّ أَهْلُ أُحُدٍ، ثُمَّ أَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ.
وَأَمَّا السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ، فَقِيلَ هُمْ مَنْ صَلَّى (إِلَى) الْقِبْلَتَيْنِ، وَقِيلَ أَهْلُ بَدْرٍ، وَقِيلَ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَآهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَحْوٌ مَنْ سِتِّينَ أَلْفًا وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ: شَهِدَ مَعَهُ حَجَّةَ الْوَدَاعِ أَرْبَعُونَ أَلْفًا، وَكَانَ مَعَهُ بِتَبُوكَ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَقُبِضَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَنْ مِائَةٍ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الصَّحَابَةِ.
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: وَأَكْثَرُهُمْ رِوَايَةً سِتَّةٌ أَنَسٌ، وَجَابِرٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةُ.
(قُلْتُ): وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَلَكِنَّهُ تُوُفِّيَ قَدِيمًا، وَلِهَذَا لَمْ يَعُدَّهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي الْعَبَادِلَةِ، بَلْ قَالَ: الْعَبَادِلَةُ أَرْبَعَةٌ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ.
فَرْعٌ
وَأَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَقِيلَ إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مُطْلَقًا وَمِنَ الْوِلْدَانِ عَلِيٌّ، وَقِيلَ إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مُطْلَقًا، وَلَا دَلِيَلَ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ وَمِنَ الْمَوَالِي زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَمِنَ الْأَرِقَّاءِ بِلَالٌ وَمِنَ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ، وَقِيلَ إِنَّهَا أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مُطْلَقًا، وَهُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقَاتِ فِي أَوَّلِ الْبِعْثَةِ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ صَاحِبِ الْمَغَازِي وَجَمَاعَةٍ، وَادَّعَى الثَّعْلَبِيُّ الْمُفَسِّرُ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ قَالَ: وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَنْ أَسْلَم بَعْدَهَا.
فَرْعٌ
وَآخِرُ الصَّحَابَةِ مَوْتًا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ثُمَّ أَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ اللَّيْثِيُّ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَكَّةَ فَعَلَى هَذَا هُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِهَا وَيُقَالُ: آخِرُ مَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ ابْنُ عُمَرَ وَقِيلَ جَابِرٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ جَابِرًا مَاتَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِهَا وَقِيلَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ وَقِيلَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ وَبِالْبَصْرَةِ أَنَسٌ وَبِالْكُوفَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى وَبِالشَّامِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ بِحِمْصَ وَبِدِمَشْق وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ وَبِمِصْرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ جُزْءٍ وَبِالْيَمَامَةِ الْهِرْمَاسُ بْنُ زِيَادٍ، وَبِالْجَزِيرَةِ الْعُرْسُ بْنُ عَمِيرَةَ وَبِإِفْرِيقِيَّةَ رُوَيفعُ بْنُ ثَابِتٍ وَبِالْبَادِيَةِ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
فَرْعٌ
وَتُعْرَفُ صُحْبَةُ الصَّحَابَةِ تَارَةً بِالتَّوَاتُرِ، وَتَارَةً بِأَخْبَارٍ مُسْتَفِيضَةٍ، وَتَارَةً بِشَهَادَةِ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ لَهُ، وَتَارَة بِرِوَايَتِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَاعًا أَوْ مُشَاهَدَةً مَعَ الْمُعَاصَرَةِ.
فَرْعٌ
فَأَمَّا إِذَا قَالَ الْمُعَاصِرُ الْعَدْلُ ”أَنَا صَحَابِيٌّ” فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ: احْتَمَلَ الْخِلَافَ، يَعْنِي; لِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، كَمَا لَوْ قَالَ فِي النَّاسِخِ: ”هَذَا نَاسِخٌ لِهَذَا” لِاحْتِمَال خَطَئِهِ فِي ذَلِكَ.
أَمَّا لَوْ قَالَ: ”سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَذَا” أَوْ ”رَأَيْتُهُ فَعَلَ كَذَا”، أَوْ ”كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ”، وَنَحْوَ هَذَا، فَهَذَا مَقْبُولٌ لَا مَحَالَةَ، إِذَا صَحَّ السَّنَدُ إِلَيْهِ، وَهُوَ مِمَّنْ عَاصَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
النوع الْمُوفِي أَرْبَعِينَ: مَعْرِفَةُ التَّابِعِينَ
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ التَّابِعِيُّ: مَنْ صَحِبَ الصَّحَابِيَّ وَفِي كَلَامِ الْحَاكِمِ مَا يَقْتَضِي إِطْلَاقَ التَّابِعِيِّ عَلَى مَنْ لَقِيَ الصَّحَابِيَّ وَرَوَى عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ.
(قُلْتُ): لَمْ يَكْتَفُوا بِمُجَرَّدِ رُؤْيَتِهِ الصَّحَابِيَّ، كَمَا اكْتَفَوْا فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الصَّحَابِيِّ عَلَى مَنْ رَآهُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَالْفَرْقُ عَظَمَةُ وَشَرَفُ رُؤْيَتِهِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَدْ قَسَّمَ الْحَاكِمُ طَبَقَاتِ التَّابِعِينَ إِلَى خَمْسَ عَشْرَةَ طَبَقَةً فَذَكَرَ أَنَّ أَعْلَاهُمْ مَنْ رَوَى عَنِ الْعَشَرَةِ، وَذَكَرَ مِنْهُمْ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، وَقَيْسَ بْنَ أَبِي حَازِمٍ، وَقَيْسَ بْنَ عَبَّادٍ، وَأَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ، وَأَبَا وَائِلٍ، وَأَبَا رَجَاءٍ العُطَارِدِيَّ، وَأَبَا سَاسَانَ حُضَيْنَ بْنَ الْمُنْذِرِ، وَغَيْرَهُمْ وَعَلَيْهِ فِي هَذَا الْكَلَامِ دَخَلٌ كَثِيرٌ، فَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنِ الْعَشَرَةِ مِنَ التَّابِعِينَ سِوَى قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَهُ ابْنُ خِرَاشٍ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي دَاوُدَ: لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فَلَمْ يُدْرِكْ الصِّدِّيقَ، قَوْلًا وَاحِدًا; لِأَنَّهُ وُلِدَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ لِسَنَتَيْنِ مَضَتَا أَوْ بَقِيَتَا، وَلِهَذَا اخْتُلِفَ فِي سَمَاعِهِ مِنْ عُمَرَ، قَالَ الْحَاكِمُ: أَدْرَكَ عُمَرَ فَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْعَشَرَةِ، وَقِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَشَرَةِ سِوَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَكَانَ آخِرُهُمْ وَفَاةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْحَاكِمُ: وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ التَّابِعِينَ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَأَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، وَأَبِي إِدْرِيسَ الخَوْلَانِيِّ.
(قُلْتُ): أَمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ فَلَمَّا وُلِدَ ذَهَبَ بِهِ أَخُوهُ لِأُمِّهِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَحَنَّكَهُ وَبَرَّكَ عَلَيْهِ، وَسَمَّاهُ ”عَبْدَ اللَّهِ”، وَمِثْلُ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَعُدَّ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ، لِمُجَرَّدِ الرُّؤْيَةِ، وَلَقَدْ عَدُّوا فِيهِمْ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَإِنَّمَا وُلِدَ عِنْدَ الشَّجَرَةِ وَقْتَ الْإِحْرَامِ بِحَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَلَمْ يُدْرِكْ مِنْ حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا نَحْوًا مِنْ مِائَةِ يَوْمٍ وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّهُ أُحْضِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا رَآهُ، فعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ أَوْلَى أَنْ يُعَدَّ فِي صِغَارِ الصَّحَابَةِ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَاكِمُ النُّعْمَانَ; وَسُوَيْدًا، ابْنَيْ مُقَرِّنٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَهُمَا صَحَابِيَّانِ.
وَأَمَّا الْمُخَضْرَمُونَ، فَهُمْ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرَوْهُ.
و”الْخَضْرَمَةُ” الْقَطْعُ، فَكَأَنَّهُمْ قُطِعُوا عَنْ نُظَرَائِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ.
وَقَدْ عَدَّ مِنْهُمْ مُسْلِمٌ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ نَفْسًا، مِنْهُمْ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ، وَسُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، وَأَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ، وَأَبُو الْحَلَالِ العَتَكِيُّ، وَعَبْدُ خَيْرٍ بْنُ يَزِيدَ الخَيْوَانِيُّ، وَرَبِيعَةُ بْنُ زُرَارَةَ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَمِمَّنْ لَمْ يَذْكُرْهُ مُسْلِمٌ أَبُو مُسْلِمٍ الخَوْلَانِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَوْبٍ.
(قُلْتُ): وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُكَيْمٍ، وَالْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ.
وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي أَفْضَلِ التَّابِعِينَ مَنْ هُوَ؟
فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ وَقَالَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ: الْحَسَنُ وَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: عَلْقَمَةُ، وَالْأَسْوَدُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُوَيْسٌ الْقَرْنِيُّ.. وَقَالَ أَهْلُ مَكَّةَ: عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ.
وَسَيِّدَاتُ النِّسَاءِ مِنَ التَّابِعِينَ حَفْصَةُ بِنْتُ سِيرِينَ وَعَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأُمُّ الدَّرْدَاءِ الصُّغْرَى- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَمِنْ سَادَاتِ التَّابِعِينَ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ بِالْحِجَازِ، وَهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتبةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وَالسَّابِعُ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَقِيلَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَقِيلَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ.
وَقَدْ عَدَّ عَلِيُّ بْنُ (الْمَدِينِيِّ) فِي التَّابِعِينَ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ، كَمَا أَخْرَجَ آخَرُونَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ مَعْدُودٌ فِيهِمْ، وَكَذَلِكَ ذَكَرُوا فِي الصَّحَابَةِ مَنْ لَيْسَ صَحَابِيًّا كَمَا عَدُّوا جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ فِيمَنْ ظَنُّوهُ تَابِعِيًّا، وَذَلِكَ بِحَسَبِ مَبْلَغِهِمْ مِنَ الْعِلْمِ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
النوع الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ: مَعْرِفَةُ رِوَايَةِ الْأَكَابِرِ عَنْ الْأَصَاغِرِ
قَدْ يَرْوِي الْكَبِيرُ الْقَدْرِ أَوْ السِّنِّ أَوْ هُمَا عَمَّنْ دُونَهُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَوْ فِيهِمَا.
وَمِنْ أَجَلِّ مَا يُذْكَرُ فِي هَذَا الْبَابِ مَا ذَكَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي خُطْبَتِهِ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ مِمَّا أَخْبَرَهُ بِهِ عَنْ رُؤْيَةِ الدَّجَّالِ فِي تِلْكَ الْجَزِيرَةِ الَّتِي فِي الْبَحْرِ وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحِ.
وَكَذَلِكَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ رِوَايَةُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ مَالِكِ بْنِ يُخَامِرَ عَنْ مُعَاذٍ، وَهُمْ بِالشَّامِ، فِي حَدِيثِ «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ».
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَقَدْ رَوَى الْعَبَادِلَةُ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ.
(قُلْتُ): وَقَدْ حَكَى عَنْهُ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ.
وَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ مَالِكٍ، وَهُمَا مِنْ شُيُوخِهِ، وَكَذَا رَوَى عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، قِيلَ (عِشْرُونَ)، وَيُقَالُ: بِضْعٌ وَسَبْعُونَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ وَلَوْ سَرَدْنَا جَمِيعَ مَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ لِطَالَ الْفَصْلُ جِدًّا.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَفِي التَّنْبِيهِ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْفَائِدَةِ مَعْرِفَةُ الرَّاوِي مِنَ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ قَالَ: صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُنْزِلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ.
النوع الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: مَعْرِفَةُ الْمُدَبَّجِ
وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَقْرَانِ سِنًّا وَسَنَدًا وَاكْتَفَى الْحَاكِمُ بِالْمُقَارَنَةِ فِي السَنَدِ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ الْأَسْنَانُ فَمَتَى رَوَى كُلٌّ مِنْهُمْ عَنْ الْآخَرِ سُمِّيَ ”مُدَبَّجًا” كَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ، وَالزُّهْرِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، فَمَا لَمْ يَرْوِ عَنْ الْآخَرِ لَا يُسَمَّى ”مُدَبَّجًا” وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
النوع الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: مَعْرِفَةُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الرُّوَاةِ
وَقَدْ صَنَّفَ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ.
فَمِنْ أَمْثِلَةِ الْأَخَوَيْنِ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأَخُوهُ عُتْبَةُ، عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَأَخُوهُ هِشَامٌ; وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَخُوهُ يَزِيدُ.
وَمِنْ التَّابِعِينَ عَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ أَبُو مَيْسَرَةَ وَأَخُوهُ أَرْقَمُ، كِلَاهُمَا مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمِنْ أَصْحَابِهِ أَيْضًا هُزَيْلُ بْنُ شُرَحْبِيلَ، وَأَخُوهُ أَرْقَمُ.
سَهْلٌ وَعَبَّادٌ وَعُثْمَانُ بَنَو حُنَيْفٍ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ وَأَخَوَاهُ عُمَرُ، وَشُعَيْبُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَأَخَوَاهُ أُسَامَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ.
سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ وَإِخْوَتُهُ عَبْدُ اللَّهِ- الَّذِي يُقَالُ لَهُ عَبَّادٌ- وَمُحَمَّدٌ، وَصَالِحٌ.
سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَإِخْوَتُهُ الْأَرْبَعَةُ إِبْرَاهِيمُ، وَآدَمُ، وَعِمْرَانُ، وَمُحَمَّدٌ قَالَ الْحَاكِمُ سَمِعْتُ الْحَافِظَ أَبَا عَلِيٍّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ- يَعْنِي النَّيْسَابُورِيَّ- يَقُولُ كُلُّهُمْ حَدَّثُوا.
وَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَإِخْوَتُهُ أَنَسٌ، وَمَعْبَدٌ، وَيَحْيَى، وَحَفْصَةُ، وَكَرِيمَةُ كَذَا ذَكَرَهُمْ النَّسَائِيُّ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ أَيْضًا، وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَافِظُ أَبُو عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيُّ فِيهِمْ ”كَرِيمَةَ” فَعَلَى هَذَا يَكُونُونَ مِنَ الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَكَانَ مَعْبَدٌ أَكْبَرَهُمْ، وَحَفْصَةُ أَصْغَرَهُمْ، وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ أَخِيهِ يَحْيَى عَنْ أَخِيهِ أَنَسٍ عَنْ مَوْلَاهُمْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَبَّيْكَ حَقًّا حَقًّا، تَعَبُّدًا وَرِقًّا».
النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ وَإِخْوَتُهُ سِنَانٌ، وَسُوَيْدٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَعُقَيْلٌ، وَمَعْقِلٌ، وَلَمْ يُسَمِّ السَّابِعَ، هَاجَرُوا وَصَحِبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ شَهِدُوا الْخَنْدَقَ كُلُّهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُ وَاحِد:ٍ لَمْ يُشَارِكْهُمْ أَحَدٌ فِي هَذِهِ الْمَكْرُمَةِ.
(قُلْتُ): وَثَمَّ سَبْعَةُ إِخْوَةٍ صَحَابَةٍ، شَهِدُوا كُلُّهُمْ بَدْرًا، وَلَكِنَّهُمْ لِأُمٍّ، وَهِيَ عَفْرَاءُ بِنْتُ عُبَيْدٍ، تَزَوَّجَتْ أَوَّلًا بِالْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ الْأَنْصَارِيِّ، فَأَوْلَدَهَا مُعَاذًا وَمُعَوِّذًا، ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ طَلَاقِهِ لَهَا بِالْبُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ يَالَيْلَ بْنِ نَاشِبٍ، فَأَوْلَدَهَا إِيَاسًا وَخَالِدًا وَعَاقِلًا وَعَامِرًا، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الْحَارِثِ، فَأَوْلَدَهَا عَوْنًا فَأَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ أَشِقَّاءُ، وَهُمْ بَنُو الْبُكَيْرِ، وَثَلَاثَةٌ أَشِقَّاءُ، وَهُمْ بَنُو الْحَارِثِ، وَسَبْعَتُهُمْ شَهِدُوا بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمُعَاذٌ وَمُعَوِّذٌ ابْنَا عَفْرَاءَ، هُمَا اللَّذَانِ أَثْبَتَا أَبَا جَهْلٍ عَمْرَو بْنَ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيَّ، ثُمَّ احْتَزَّ رَأْسَهُ وَهُوَ طَرِيحٌ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ الْهُذَلِيُّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
النوع الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: مَعْرِفَةُ رِوَايَةِ الْآبَاءِ عَنْ الْأَبْنَاءِ
وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ الْخَطِيبُ كِتَابًا.
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَوَى عَنِ ابْنَتِهِ عَائِشَةَ وَرَوَتْ عَنْهَا أُمُّهَا أَمُّ رُومَانٍ أَيْضًا.
قَالَ: رَوَى الْعَبَّاسُ عَنِ ابْنَيْهِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْفَضْلِ.
قَالَ: وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ طَرْخَانَ التَّيْمِيُّ عَنِ ابْنِهِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِهِ أَبِي بَكْرٍ بْنِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو بْنُ الصَّلَاحِ وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ وَائِلِ بْنِ دَاوُدَ عَنِ ابْنِهِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَخِّرُوا الْأَحْمَالَ، فَإِنَّ الْيَدَ مُغْلَقَةٌ، وَالرِّجْلَ مُوَثَّقَةٌ» قَالَ الْخَطِيبُ: لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
قَالَ: وَرَوَى أَبُو عُمَرَ حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الدُّورِيُّ الْمُقْرِئُ عَنِ ابْنِهِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدٍ سِتَّةَ عَشَرَ حَدِيثًا أَوْ نَحْوَهَا، وَذَلِكَ أَكْثَرُ مَا وَقَعَ مِنْ رِوَايَةِ أَبٍ عَنِ ابْنِهِ.
ثُمَّ رَوَى الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو عَنْ أَبِي الْمُظَّفَرِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ الْحَافِظِ أَبِي سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِهِ أَبِي الْمُظَفَّرِ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: «أَحْضِرُوا مَوَائِدَكُمْ الْبَقْلَ، فَإِنَّهُ مَطْرَدَةٌ لِلشَّيْطَانِ مَعَ التَّسْمِيَةِ» سَكَتَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو، وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَأَخْلِقْ بِهِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رُوِّينَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ: «شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ» فَهُوَ غَلَطٌ، إِنَّمَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عَتِيقٍ، مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ.
(قُلْتُ): وَيَلْتَحِقُ بِهِمْ تَقْرِيبًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أُمُّهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، وَهُوَ أَسَنُّ وَأَشْهَرُ فِي الصَّحَابَةِ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ رَوَى حَمْزَةُ وَالْعَبَّاسُ عَنِ ابْنِ أَخِيهِمَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَى مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ عَنِ ابْنِ أَخِيهِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ حَنْبَلَ عَنِ ابْنِ أَخِيهِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلَ وَرَوَى مَالِكٌ عَنِ ابْنِ أُخْتِهِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ.
النوع الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: رِوَايَةُ الْأَبْنَاءِ عَنْ الْآبَاءِ
وَذَلِكَ كَثِيرٌ جِدًّا وَأَمَّا رِوَايَةُ الِابْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، فَكَثِيرَةٌ أَيْضًا، وَلَكِنَّهَا دُونَ الْأَوَّلِ، وَهَذَا كَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ، وَهُوَ شُعَيْبٌ، عَنْ جَدِّهِ، عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ، لَا مَا عَدَاهُ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ فِي كِتَابِنَا التَّكْمِيلِ، وَفِي الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ.
وَمِثْلُ بَهْزِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مُعَاوِيَةَ وَمِثْلُ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ كَعْبٍ وَقِيلَ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو وَاسْتِقْصَاءُ ذَلِكَ يَطُولُ.
وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ الْحَافِظُ أَبُو نَصْرٍ الْوَائِلِيُّ كِتَابًا حَافِلًا، وَزَادَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَشْيَاءَ مُهِمَّةً نَفِيسَةً.
وَقَدْ يَقَعُ فِي بَعْضِ الْأَسَانِيدِ فُلَانٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِيهِ، وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ قَلِيلٌ، وَقَلَّ مَا يَصِحُّ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
النوع السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: مَعْرِفَةُ رِوَايَةِ السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ
وَقَدْ أَفْرَدَ لَهُ الْخَطِيبُ كِتَابًا وَهَذَا إِنَّمَا يَقَعُ عِنْدَ رِوَايَةِ الْأَكَابِرِ عَنْ الْأَصَاغِرِ ثُمَّ يَرْوِي عَنْ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ مُتَأَخِّرٌ.
كَمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ تِلْمِيذِهِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَقَدْ تُوُفِّيَ الزُّهْرِيُّ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَمِمَّنْ رَوَى عَنْ مَالِكٍ زَكَرِيَّا بْنُ دُوَيْدٍ الْكِنْدِيُّ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بَعْدَ وَفَاةِ الزُّهْرِيِّ بِمِائَةٍ وَسَبْعٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ.
وَهَكَذَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ السَّرَّاجِ، وَرَوَى عَنْ السَّرَّاجِ أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَفَّافُ النَّيْسَابُورِيُّ، وَبَيْنَ وَفَاتَيْهِمَا مِائَةٌ وَسَبْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَتُوُفِّيَ الْخَفَّافُ سَنَةَ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ كَذَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ.
(قُلْتُ): وَقَدْ أَكْثَرَ مِنْ التَّعَرُّضِ لِذَلِكَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْكَبِيرُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ فِي كِتَابِهِ ”التَّهْذِيبِ” وَهُوَ مِمَّا يَتَحَلَّى بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَلَيْسَ مِنَ الْمُهِمَّاتِ فِيهِ.
النوع السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: مَعْرِفَةُ مَنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا رَاوٍ وَاحِدٌ مِنْ صَحَابِيٍّ وَتَابِعِيٍّ وَغَيْرِهِمْ
وَلِمُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ تَصْنِيفٌ فِي ذَلِكَ.
تَفَرَّدَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ عَامِرُ بْنُ شَهْرٍ، وَعُرْوَةُ بْنُ مُضَرِّسٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ صَفْوَانَ الْأَنْصَارِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ صَيْفِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُمَا وَاحِدٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا اثْنَانِ، وَوَهْبُ بْنُ خَنْبَشٍ، وَيُقَالُ: هَرَمُ بْنُ خَنْبَشٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَتَفَرَّدَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ بْنِ حَزْنٍ بِالرِّوَايَةِ عَنْ أَبِيهِ وَكَذَلِكَ حَكِيمُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ عَنْ (أَبِيهِ) وَكَذَلِكَ شُتَيْرُ بْنُ شَكَلِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ.
وَكَذَلِكَ قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، تَفَرَّدَ بِالرِّوَايَةِ عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ دُكَيْنِ بْنِ سَعْدٍ الْمُزَنِيِّ، وصُنَابِحِ بْنِ الْأَعْسَرِ، وَمِرْدَاسِ بْنِ مَالِكٍ الْأَسْلَمِيِّ وَكُلُّ هَؤُلَاءِ صَحَابَةٌ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَقَدْ ادَّعَى الْحَاكِمُ فِي الْإِكْلِيلِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا لَمْ يُخَرِّجَا فِي صَحِيحَيْهِمَا شَيْئًا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.
قَالَ: وَقَدْ أُنْكِرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَنُقِضَ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ، وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْهُ غَيْرُهُ، فِي وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ مِرْدَاسٍ الْأَسْلَمِيِّ حَدِيثَ «يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ» وَبِرِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ، وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ، حَدِيثَ: «إِنِّي لَأُعْطِيَ الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ» وَرَوَى مُسْلِمٌ حَدِيثَ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي» وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ أَبِي بُرْدَةَ وَحَدِيثَ رِفَاعَةَ بْنِ عَمْرٍو، وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، وَحَدِيثَ أَبِي رِفَاعَةَ، وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ الْعَدَوِيِّ وَغَيْرُ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا مَصِيرٌ مِنْهُمَا إِلَى أَنْ تَرْتَفِعَ الْجَهَالَةُ عَنِ الرَّاوِي بِرِوَايَةِ وَاحِدٍ عَنْهُ.
(قُلْتُ): أَمَّا رِوَايَةُ الْعَدْلِ عَنْ شَيْخٍ، فَهَلْ هِيَ تَعْدِيلٌ أَمْ لَا؟ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ مَشْهُورٌ، ثَالِثُهَا إِنْ (اشْتَرَطَ) الْعَدَالَةَ فِي شُيُوخِهِ، كَمَالِكٍ وَنَحْوِهِ، فَتَعْدِيلٌ، وَإِلَّا فَلَا.
وَإِذَا لَمْ نَقُلْ إِنَّهُ تَعْدِيلٌ فَلَا تَضُرُّ جَهَالَةُ الصَّحَابِيِّ; لِأَنَّهُمْ كُلُّهُمْ عُدُولٌ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ، فَلَا يَصِحُّ مَا اسْتَدْرَكَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو رَحِمَهُ اللَّهُ ; لِأَنَّ جَمِيعَ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ صَحَابَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا التَّابِعُونَ
فَقَدْ تَفَرَّدَ- فِيمَا نَعْلَمُ- حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الْعُشَرَاءِ الدَّارِمِيِّ عَنْ أَبِيهِ بِحَدِيثِ: «أَمَا تَكُونُ الذَّكَاةُ إِلَّا فِي اللَّبَّةِ؟ فَقَالَ: أَمَا لَوْ طَعَنْتَ فِي فَخِذِهَا لَأَجْزَأَ عَنْكَ».
وَيُقَالُ: إِنَّ الزُّهْرِيَّ تَفَرَّدَ عَنْ نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ تَابِعِيًّا وَكَذَلِكَ تَفَرَّدَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَهِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، وَأَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ.
وَقَالَ الْحَاكِم:ُ وَقَدْ تَفَرَّدَ مَالِكٌ عَنْ زُهَاءِ عَشَرَةٍ مِنْ شُيُوخِ الْمَدِينَةِ، (لَمْ يَرْوِ عَنْهُمْ غَيْرُهُ).
النوع الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ: مَعْرِفَةُ مَنْ لَهُ أَسْمَاءٌ مُتَعَدِّدَةٌ
فَيَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُمْ (أَشْخَاصٌ) مُتَعَدِّدَةٌ، أَوْ يُذْكَرُ بِبَعْضِهَا، أَوْ بِكُنْيَتِهِ، فَيَعْتَقِدُ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ أَنَّهُ غَيْرُهُ.
وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ ذَلِكَ مِنَ الْمُدَلِّسِينَ، (يُغَرِّبُونَ بِهِ عَلَى النَّاسِ)، فَيَذْكُرُونَ الرَّجُلَ بِاسْمٍ لَيْسَ هُوَ مَشْهُورًا بِهِ، أَوْ يُكَنُّونَهُ، لِيُبْهِمُوهُ عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُهَا، وَذَلِكَ كَثِيرٌ.
وَقَدْ صَنَّفَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْمِصْرِيُّ فِي ذَلِكَ كِتَابًا، وَصَنَّفَ النَّاسُ كُتُبَ الْكُنَى، وَفِيهَا إِرْشَادٌ إِلَى (إِظْهَارِ تَدْلِيسِ الْمُدَلِّسِينَ).
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ
مُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، لَكِنَّهُ عَالِمٌ (بِالتَّفْسِيرِ) وَبِالْأَخْبَارِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُصَرِّحُ بِاسْمِهِ هَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ حَمَّادُ بْنُ السَّائِبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُكَنِّيهِ بِأَبِي النَّضْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُكَنِّيهِ بِأَبِي سَعِيدٍ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهُوَ الَّذِي يَرْوِي عَنْهُ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ التَّفْسِيرَ، مُوهِمًا أَنَّهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ.
وَكَذَلِكَ سَالِمٌ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِسَبَلَانَ، الَّذِي يَرْوِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَنْسُبُونَهُ فِي وَلَائِهِ إِلَى جِهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا، وَالتَّدْلِيسُ أَقْسَامٌ كَثِيرَةٌ، كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
النوع التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: مَعْرِفَةُ الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ وَالْكُنَى الَّتِي لَا يَكُونُ مِنْهَا فِي كُلِّ حَرْفٍ سِوَاهُ
وَقَدْ صَنَّفَ فِي ذَلِكَ الْحَافِظُ أَحْمَدُ بْنُ هَارُونَ الْبَرْدِيجِيُّ وَغَيْرُهُ وَيُوجَدُ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي كِتَابِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ لِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَغَيْرِهِ، وَفِي كِتَابِ الْإِكْمَالِ لِأَبِي نَصْرٍ بْنٍ مَاكُولَا كَثِيرًا.
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو بْنُ الصَّلَاحِ طَائِفَةً مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ، مِنْهُمْ ”أَجْمَدُ” بِالْجِيمِ ”بْنُ عُجَيَّانَ” عَلَى وَزْنِ ”عُلَيَّانَ” قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَرَأَيْتُهُ بِخَطِّ ابْنِ الْفُرَاتِ مُخَفَّفًا عَلَى وَزْنِ ”سُفْيَانَ”، ذَكَرَهُ ابْنُ يُونُسَ فِي الصَّحَابَةِ ”أَوْسَطُ بْنُ عَمْرٍو البَجَلِيُّ” تَابِعِيٌّ ”تَدُومُ بْنُ صُبَيْحٍ الْكُلَاعِيُّ” عَنْ تُبَيْعٍ الْحِمْيَرِيِّ ابْنِ امْرَأَةِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ ”حَبِيبُ بْنُ الْحَارِثِ” صَحَابِيٌّ ”جِيلَانُ بْنُ فَرْوَةَ أَبُو الْجَلَدِ الْأَخْبَارِيُّ” تَابِعِيٌّ ”الدُّجَيْنُ بْنُ ثَابِتٍ أَبُو الْغُصْنِ”، يُقَالُ: إِنَّهُ جُحَا.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ غَيْرُهُ ”زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ” سُعَيْرُ بْنُ الْخِمْسِ” ”سَنْدَرٌ الْخَصِيُّ”، مَوْلَى زِنْبَاعٍ الجُذَامِيِّ، لَهُ صُحْبَةٌ ”شَكَلُ بْنُ حُمَيْدٍ” صَحَابِيٌّ ”شَمْغُونُ” بِالشِّينِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَتَيْنِ ”بْنُ زَيْدٍ أَبُو رَيْحَانَةَ” صَحَابِيٌّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ ”صُدَيُّ بْنُ عَجْلَانَ أَبُو أُمَامَةَ” صَحَابِيٌّ ”صُنَابِحُ بْنُ الْأَعْسَرِ” ”ضُرَيْبُ بْنُ نُقَيْرِ بْنِ سُمَيْرٍ” كُلُّهَا بِالتَّصْغِيرِ ”أَبُو السَّلِيلِ الْقَيْسِيُّ الْبَصْرِيُّ”، يَرْوِي عَنْ مُعَاذٍ.
”عَزْوَانُ” بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ ابْنُ زَيْدٍ الرُّقَاشِيُّ”، أَحَدُ الزُّهَّادِ، تَابِعِيٌّ ”كَلَدَةُ بْنُ حَنْبَلٍ” صَحَابِيٌّ ”نَوْفٌ الْبِكَالِيُّ” تَابِعِيٌّ ”وَابِصَةُ بْنُ مَعْبَدٍ” صَحَابِيٌّ ”هُبَيْبُ بْنُ مُغْفِلٍ” ”هَمَدَانُ” بَرِيدُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَقِيلَ بِالْمُعْجَمَةِ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ:
مَسْأَلَةٌ هَلْ تَعْرِفُونَ رَجُلًا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ لَا يُوجَدُ مِثْلُ أَسْمَاءِ آبَائِهِ؟ فَالْجَوَابُ إِنَّهُ مُسَدَّدُ بْنُ مُسَرْهَدِ بْنِ مُسَرْبَلِ بْنِ مُغَرْبَلِ بْنِ مُطَرْبَلِ بْنِ أَرَنْدَلِ بْنِ عَرَنْدَلِ بْنِ مَاسِكٍ الْأَسَدِيِّ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَأَمَّا الْكُنَى الْمُفْرَدَةُ فَمِنْهَا ”أَبُو الْعُبَيْدَيْنِ”، وَاسْمُهُ ”مُعَاوِيَةُ بْنُ سَبْرَةَ” مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ ”أَبُو الْعُشَرَاءِ الدَّارِمِيُّ”، تَقَدَّمَ ”أَبُو الْمُدِلَّةِ”، مِنْ شُيُوخِ الْأَعْمَشِ وَغَيْرِهِ، لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ، وَزَعَمَ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ أَنَّ اسْمَهُ ”عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ” ”أَبُو مُرَايَةَ الْعِجْلِيُّ” ”عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو”، تَابِعِيٌّ ”أَبُو مَعْبَدٍ” ”حَفْصُ بْنُ غَيْلَانَ” الدِّمَشْقِيُّ عَنْ مَكْحُولٍ.
(قُلْتُ): وَقَدْ رَوَى عَنْهُ نَحْوٌ مَنْ عَشَرَةٍ، وَمَعَ هَذَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: هُوَ مَجْهُولٌ; لِأَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى مَعْرِفَتِهِ، وَمَنْ رَوَى عَنْهُ فَحَكَمَ عَلَيْهِ بِالْجَهَالَةِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ، كَمَا جَهِلَ التِّرْمِذِيُّ صَاحِبَ الْجَامِعِ، فَقَالَ: وَمَنْ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ؟!.
وَمِنَ الْكُنَى الْمُفْرَدَةِ ”أَبُو السَّنَابِلِ عُبَيْدُ رَبِّهِ بْنُ بَعْكَكٍ” رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ صَحَابِيٌّ، اسْمُهُ وَاسْمُ أَبِيهِ وَكُنْيَتُهُ مِنَ الْأَفْرَادِ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَأَمَّا الْأَفْرَادُ مِنَ الْأَلْقَابِ فَمِثْلُ ”سَفِينَةَ” الصَّحَابِيِّ اسْمُهُ ”مِهْرَانُ”، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ ”مَنْدَلُ بْنُ عَلِيٍّ الْعَنَزِيُّ” اسْمُهُ ”عَمْرٌو” ”سَحْنُونُ سَعِيدٌ” صَاحِبُ الْمُدَوَّنَةِ اسْمُهُ ”عَبْدُ السَّلَامِ” ”مُطَيَّنٌ” ”مُشْكُدَانَةُ الْجُعْفِيُّ”، فِي جَمَاعَةٍ آخَرِينَ، سَنَذْكُرُهُمْ فِي نَوْعِ الْأَلْقَابِ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
النوع الْمُوفِي خَمْسِينَ: مَعْرِفَةُ الْأَسْمَاءِ وَالْكُنَى
وَقَدْ صَنَّفَ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدُّولَابِيُّ، وَابْنُ مَنْدَهْ، وَالْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ الْحَافِظُ، وَكِتَابُهُ فِي ذَلِكَ مُفِيدٌ جِدًّا كَثِيرُ النَّفْعِ.
وَطَرِيقَتُهُمْ أَنْ يَذْكُرُوا الْكُنْيَةَ وَيُنَبِّهُوا عَلَى صَاحِبِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْتَلَفُ فِيهِ.
وَقَدْ قَسَّمَهُمْ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو بْنُ الصَّلَاحِ إِلَى أَقْسَامٍ عِدَّةٍ:
(أَحَدُهَا) مَنْ لَيْسَ لَهُ اسْمٌ سِوَى الْكُنْيَةِ، كَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ الْمَدَنِيِّ، أَحَدِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَيُكَنَّى بِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَيْضًا وَهَكَذَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الْمَدَنِيُّ، يُكَنَّى بِأَبِي مُحَمَّدٍ أَيْضًا قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: وَلَا نَظِيرَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ، وَقِيلَ لَا كُنْيَةَ لِابْنِ حَزْمٍ هَذَا.
وَمِمَّنْ لَيْسَ لَهُ اسْمٌ سِوَى كُنْيَتِهِ فَقَطْ أَبُو بِلَالٍ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ شَرِيكٍ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ اسْمِي كُنْيَتِي وَأَبُو حُصَيْنٍ ابْنُ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ الرَّازِيُّ، شَيْخُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرِهِ.
(الْقِسْمُ الثَّانِي): مَنْ لَا يُعْرَفُ بِغَيْرِ كُنْيَتِهِ، وَلَمْ يُوقَفْ عَلَى اسْمِهِ، مِنْهُمْ ”أَبُو أَنَاسٍ” بِالنُّونِ الصَّحَابِيِّ ”أَبُو مُوَيْهِبَةَ” صَحَابِيٌّ ”أَبُو شَيْبَةَ” الْخُدْرِيُّ الْمَدَنِيُّ، قُتِلَ فِي حِصَارِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَدُفِنَ هُنَاكَ رَحِمَهُ اللَّهُ ”أَبُو الْأَبْيَضِ” عَنْ أَنَسٍ ”أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ شَيْخُ مَالِكٍ ”أَبُو النَّجِيبِ” بِالنُّونِ مَفْتُوحَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ مَضْمُومَةً، وَهُوَ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ”أَبُو حَرْبِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ” ”أَبُو حَرِيزٍ الْمَوْقِفِيُّ” شَيْخُ ابْنِ وَهْبٍ وَالْمَوْقِفُ مَحَلَّةٌ بِمِصْرَ.
(الثَّالِثِ): مَنْ لَهُ كُنْيَتَانِ، إِحْدَاهُمَا لَقَبٌ، مِثَالُهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، كُنْيَتُهُ أَبُو الْحَسَنِ، وَيُقَالُ لَهُ: ”أَبُو تُرَابٍ” لَقَبًا ”أَبُو الزِّنَادِ” عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذَكْوَانَ، يُكَنَّى بِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَ”أَبُو الزِّنَادِ” لَقَبٌ، حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ كَانَ يَغْضَبُ مِنْ ذَلِكَ ”أَبُو الرِّجَالِ” مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، يُكَنَّى بِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَ”أَبُو الرِّجَالِ” لَقَبٌ لَهُ; لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ عَشَرَةُ أَوْلَادٍ رِجَالٌ ”أَبُو تُمَيْلَةَ” يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، كُنْيَتُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ ”أَبُو الْآذَانِ” الْحَافِظُ عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، يُكَنَّى بِأَبِي بَكْرٍ، وَلُقِّبَ بِأَبِي الْآذَانِ لِكِبَرِ أُذُنَيْهِ ”أَبُو الشَّيْخِ” الْأَصْبَهَانِيُّ الْحَافِظُ، هُوَ عَبْدُ اللَّهِ (بْنُ مُحَمَّدٍ) وَكُنْيَتُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَ”أَبُو الشَّيْخِ” لَقَبٌ ”أَبُو حَازِمٍ” العَبْدَرِيُّ الْحَافِظُ، عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ، كُنْيَتُهُ أَبُو حَفْصٍ، وَ”أَبُو حَازِمٍ” لَقَبٌ قَالَهُ الْفَلَكِيُّ فِي الْأَلْقَابِ.
(الرَّابِعُ): مَنْ لَهُ كُنْيَتَانِ، كَابْنِ جُرَيْجٍ، كَانَ يُكَنَّى بِأَبِي خَالِدٍ، وَبِأَبِي الْوَلِيدِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ يُكَنَّى بِأَبِي الْقَاسِمِ، فَتَرَكَهَا وَاكْتَنَى بِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
”قُلْتُ” وَكَانَ السُّهَيْلِيُّ يُكَنَّى بِأَبِي الْقَاسِمِ وَبِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَكَانَ لِشَيْخِنَا مَنْصُورِ بْنِ أَبِي الْمَعَالِي النَّيْسَابُورِيِّ، حَفِيدِ الْفَرَاوِيِّ ثَلَاثُ كُنَى أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو الْفَتْحِ، وَأَبُو الْقَاسِمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(الْخَامِسُ): مَنْ لَهُ اسْمٌ مَعْرُوفٌ، وَلَكِنْ اخْتُلِفَ فِي كُنْيَتِهِ، فَاجْتَمَعَ لَهُ كُنْيَتَانِ وَأَكْثَرُ، مِثَالُهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ اخْتُلِفَ فِي كُنْيَتِهِ، فَقِيلَ أَبُو خَارِجَةَ، وَقِيلَ أَبُو زَيْدٍ، وَقِيلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَقِيلَ أَبُو مُحَمَّدٍ وَهَذَا كَثِيرٌ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهُ.
(السَّادِسُ): مَنْ عُرِفَتْ كُنْيَتُهُ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ، كَأَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ عَلَى أَزْيَدَ مِنْ عِشْرِينَ قَوْلًا، وَاخْتَارَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَخْرٍ، وَصَحَّحَ ذَلِكَ أَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ.
”أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ” اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا، وَصَحَّحَ أَبُو زُرْعَةَ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ اسْمَهُ ”شُعْبَةُ”، وَيُقَالُ إِنَّ اسْمَهُ كُنْيَتُهُ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، قَالَ: لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ.
(السَّابِعُ): مَنْ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ وَفِي كُنْيَتِهِ، وَهُوَ قَلِيلٌ، كَسَفِينَةَ، قِيلَ اسْمُهُ مِهْرَانُ، وَقِيلَ عُمَيْرٌ، وَقِيلَ صَالِحٌ، وَكُنْيَتُهُ، قِيلَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقِيلَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ.
(الثَّامِنُ): مَنْ اشْتُهِرَ بِاسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ النُّعْمَانُ بْنُ ثَابِتٍ وَهَذَا كَثِيرٌ.
(التَّاسِعُ): مَنْ اشْتُهِرَ بِكُنْيَتِهِ دُونَ اسْمِهِ، وَكَانَ اسْمُهُ مُعَيَّنًا مَعْرُوفًا كَأَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَائِذِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَوْبٍ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو الضُّحَى مُسْلِمُ بْنُ صُبَيْحٍ أَبُو الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيُّ شَرَاحِيلُ بْنُ آدَةَ أَبُو حَازِمٍ سَلَمَةُ بْنُ دِينَارٍ وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا.
النوع الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ: مَعْرِفَةُ مَنْ اشْتُهِرَ بِالِاسْمِ دُونَ الْكُنْيَةِ
وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو مِمَّنْ يُكَنَّى بِأَبِي مُحَمَّدٍ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، وَثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُحَيْنَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ صَاحِبُ الْأَذَانِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَمَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ.
وَذَكَرَ مَنْ يُكَنَّى مِنْهُمْ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَبِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
وَلَوْ تَقَصَّيْنَا ذَلِكَ لَطَالَ الْفَصْلُ جِدًّا وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّوْعُ قِسْمًا عَاشِرًا مِنَ الْأَقْسَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي النَّوْعِ قَبْلَهُ.
النوع الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ: مَعْرِفَةُ الْأَلْقَابِ
وَقَدْ صَنَّفَ فِي ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشِّيرَازِيُّ، وَكِتَابُهُ فِي ذَلِكَ مُفِيدٌ كَثِيرُ النَّفْعِ ثُمَّ أَبُو الْفَضْلِ ابْنُ الْفَلَكِيِّ الْحَافِظُ.
وَفَائِدَةُ التَّنْبِيهِ عَلَى ذَلِكَ أَنْ لَا يُظَنَّ أَنَّ هَذَا اللَّقَبَ لِغَيْرِ صَاحِبِ الِاسْمِ.
وَإِذَا كَانَ اللَّقَبُ مَكْرُوهًا إِلَى صَاحِبِهِ فَإِنَّمَا يَذْكُرُهُ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْرِيفِ وَالتَّمْيِيزِ، لَا عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ وَاللَّمْزِ وَالتَّنَابُزِ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
قَالَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْمِصْرِيُّ: رَجُلَانِ جَلِيلَانِ لَزِمَهُمَا لَقَبَانِ قَبِيحَانِ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ ”الضَّالُّ”، وَإِنَّمَا ضَلَّ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ ”الضَّعِيفُ”، وَإِنَّمَا كَانَ ضَعِيفًا فِي جِسْمِهِ، لَا فِي حَدِيثِهِ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَثَالِثٌ، وَهُوَ ”عَارِمٌ” أَبُو النُّعْمَانِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ السَّدُوسِيُّ، وَكَانَ عَبْدًا صَالِحًا بَعِيدًا عَنْ الْعِرَامَةِ، وَالْعَارِمُ الشِّرِّيرُ الْفَاسِدُ.
(غُنْدَرٌ) لَقَبٌ لِمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْبَصْرِيِّ الرَّاوِي عَنْ شُعْبَةَ، وَلِمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، رَوَى عَنْ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ، وَلِمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْبَغْدَادِيِّ الْحَافِظِ الْجَوَّالِ شَيْخِ الْحَافِظِ أَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ وَغَيْرِهِ وَلِمُحَمَّدِ بْنِ دُرَانَ الْبَغْدَادِيِّ، رَوَى عَنْ أَبِي خَلِيفَةَ الْجُمَحِيِّ، وَلِغَيْرِهِمْ.
(غُنْجَارٌ) لَقَبٌ لِعِيسَى بْنِ مُوسَى التَّمِيمِيِّ أَبِي أَحْمَدَ الْبُخَارِيِّ، وَذَلِكَ لِحُمْرَةِ وَجْنَتَيْهِ، رَوَى عَنْ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَ(غُنْجَارٌ) آخَرُ مُتَأَخِّرٌ، وَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْبُخَارِيُّ الْحَافِظُ، صَاحِبُ تَارِيخِ بُخَارَى، تُوُفِّيَ سَنَةَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
(صَاعِقَةٌ) لَقَبُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ، لِقُوَّةِ حِفْظِهِ وَحُسْنِ مُذَاكَرَتِهِ.
(شَبَابٌ) هُوَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ الْمُؤَرِّخُ.
(زُنَيْجٌ) مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الرَّازِيُّ، شَيْخُ مُسْلِمٍ.
(رُسْتَهْ) عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُمَرَ.
(سُنَيْدٌ): هُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ الْمُفَسِّرُ.
(بُنْدَارٌ)مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ شَيْخُ الْجَمَاعَةِ; لِأَنَّهُ كَانَ بُنْدَارَ الْحَدِيثِ.
(قَيْصَرُ) لَقَبُ أَبِي النَّضْرِ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ شَيْخِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
(الْأَخْفَشُ) لَقَبٌ لِجَمَاعَةٍ، مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ عِمْرَانَ الْبَصْرِيُّ النَّحْوِيُّ، رَوَى عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ، وَلَهُ غَرِيبُ الْمُوَطَّأِ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَفِي النَّحْوِيِّينَ أَخْفَاشٌ ثَلَاثَةٌ مَشْهُورُونَ.
أَكْبَرُهُمْ أَبُو الْخَطَّابِ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ الْمَشْهُورِ.
وَالثَّانِي أَبُو الْحَسَنِ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، رَاوِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ عَنْهُ.
وَالثَّالِثُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ، تِلْمِيذُ أَبَوَيْ الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى (ثَعْلَبٍ)، وَمُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ (الْمُبَرِّدِ).
(مُرَبَّعٌ) لَقَبٌ لِمُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحَافِظِ الْبَغْدَادِيِّ.
(جَزَرَةٌ) صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ الْبَغْدَادِيُّ.
(كِيلَجَةٌ) مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ الْبَغْدَادِيُّ أَيْضًا.
(مَاغَمَّةٌ) عَلِيُّ (بْنُ الْحَسَنِ بْنِ) عَبْدِ الصَّمَدِ الْبَغْدَادِيُّ الْحَافِظُ، وَيُقَالُ: ”عَلَّانُ مَاغَمَّةٌ” فَيُجْمَعُ لَهُ بَيْنَ اللَّقَبَيْنِ.
(عُبَيْدٌ الْعِجْلُ) لَقَبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ الْبَغْدَادِيُّ الْحَافِظُ أَيْضًا.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَهَؤُلَاءِ الْبَغْدَادِيُّونَ الْحُفَّاظُ كُلُّهُمْ مِنْ تَلَامِذَةِ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَهُوَ الَّذِي لَقَّبَهُمْ بِذَلِكَ.
(سَجَّادَةٌ) الْحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ، مِنْ أَصْحَابِ وَكِيعٍ، وَالْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ، شَيْخِ ابْنِ عَدِيٍّ.
(عَبْدَانُ) لَقَبُ جَمَاعَةٍ، فَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، شَيْخُ الْبُخَارِيِّ.
فَهَؤُلَاءِ مِمَّنْ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو، وَاسْتِقْصَاءُ ذَلِكَ يَطُولُ جِدًّا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
النوعُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ: مَعْرِفَةُ الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ فِي الْأَسْمَاءِ وَالْأَنْسَابِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ
وَمِنْهُ مَا تَتَّفِقُ فِي الْخَطِّ صُورَتُهُ، وَتَفْتَرِقُ فِي اللَّفْظِ صِيغَتُهُ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهُوَ فَنٌّ جَلِيلٌ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ كَثُرَ عِثَارُهُ، وَلَمْ يَعْدِمْ مُخْجِلًا وَقَدْ صُنِّفَ فِيهِ كُتُبٌ مُفِيدَةٌ، مِنْ أَكْمَلِهَا الْإِكْمَالُ لِابْنِ مَاكُولَا، عَلَى إِعْوَازٍ فِيهِ.
”قُلْتُ” قَدْ اسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ نُقْطَةَ كِتَابًا قَرِيبًا مِنَ الْإِكْمَالِ، فِيهِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ وَلِلْحَافِظِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيِّ- مِنَ الْمَشَايِخِ الْمُتَأَخِّرِينَ- كِتَابٌ مُفِيدٌ أَيْضًا فِي هَذَا الْبَابِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ ”سَلَّامٌ وَسَلَامٌ” ”عُمَارَةُ، وَعِمَارَةُ”، ”حِزَامٌ، حَرَامٌ”، ”عَبَّاسٌ، عَيَّاشٌ”، ”غَنَّامٌ، عَثَّامٌ”، ”بَشَّارٌ، يَسَارٌ”، بِشْرٌ، بُسْرٌ”، ”بَشِيرٌ، يُسَيْرٌ، نُسَيْرٌ”، ”حَارِثَةُ، جَارِيَةُ”، ”جَرِيرٌ، حَرِيزٌ”، ”حِبَّانُ، حَيَّانُ”، ”رَبَاحٌ، رِيَاحٌ”، ”سُرَيْجٌ، شُرَيْحٌ”، ”عَبَّادٌ، عُبَادٌ” وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَكَمَا يُقَال:ُ ”الْعَنْسِيُّ، وَالْعَيْشِيُّ، وَالْعَبْسِيُّ”، ”الْحَمَّالُ، وَالْجَمَّالُ”، ”الْخَيَّاطُ، وَالْحَنَّاطُ، والخَبَّاطُ”، ”الْبَزَّارُ وَالْبَزَّازُ”، ”الْأُبُلِّيُّ، وَالْأَيْلِيُّ”، ”الْبَصْرِيُّ، وَالنَّصْرِيُّ”، ”الثَّوْرِيُّ، وَالتَّوْزِيُّ”، ”الْجُرَيْرِيُّ، وَالْجَرِيرِيُّ، وَالْحَرِيرِيُّ”، ”السَّلْمِيُّ، وَالسُّلَمِيُّ”، ”الْهَمْدَانِيُّ، وَالْهَمَذَانِيُّ”، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَهُوَ كَثِيرٌ.
وَهَذَا إِنَّمَا يُضْبَطُ بِالْحِفْظِ مُحَرَّرًا فِي مَوَاضِعِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى الْمُعِينُ الْمُيَسِّرُ، وَبِهِ الْمُسْتَعَانُ.
النوع الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: مَعْرِفَةُ الْمُتَّفِقِ وَالْمُفْتَرِقِ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالْأَنْسَابِ
وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ الْخَطِيبُ كِتَابًا حَافِلًا.
وَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو أَقْسَامًا
أَحَدُهَا أَنْ يَتَّفِقَ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ فِي الِاسْمِ وَاسْمِ الْأَبِ مِثَالُهُ ”الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ” سِتَّةٌ،:
أَحَدُهُمْ النَّحْوِيُّ الْبَصْرِيُّ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ عِلْمَ الْعَرُوضِ، قَالُوا: وَلَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَحْمَدَ قَبْلَ أَبِي الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ، إِلَّا أَبَا السَّفَرِ سَعِيدِ بْنِ أَحْمَدَ، فِي قَوْلِ ابْنِ مَعِينٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ سَعِيدُ بْنُ يُحْمِدَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّانِي أَبُو بِشْرٍ الْمُزَنِيُّ، بَصْرِيٌّ أَيْضًا، رَوَى عَنْ الْمُسْتَنِيرِ بْنِ أَخْضَرَ عَنْ مُعَاوِيَةَ (بْنِ قُرَّةَ)، وَعَنْهُ عَبَّاسٌ الْعَنْبَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ
وَالثَّالِثُ أَصْبَهَانِيٌّ، رَوَى عَنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ وَغَيْرِهِ.
وَالرَّابِعُ أَبُو سَعِيدٍ السِّجْزِيُّ، الْقَاضِي الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ الْمَشْهُورُ بِخُرَاسَانَ رَوَى عَنِ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَطَبَقَتِهِ.
الْخَامِسُ أَبُو سَعِيدٍ البُسْتِيُّ الْقَاضِي، حَدَّثَ عَنْ الَّذِي قَبْلَهُ، وَرَوَى عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ.
السَّادِسُ أَبُو سَعِيدٍ الْبُسْتِيُّ أَيْضًا، شَافِعِيٌّ، أَخَذَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، دَخَلَ بِلَادَ الْأَنْدَلُسِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي ”أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ” أَرْبَعَةٌ القَطِيعِيُّ، وَالْبَصْرِيُّ، وَالدِّينَوَرِيُّ، وَالطَّرْسُوسِيُّ
”مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ” اثْنَانِ مِنْ نَيْسَابُورَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْأَخْرَمِ.
الثَّالِثُ: ”أَبُو عِمْرَانَ الْجُونِيُّ” اثْنَانِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ، تَابِعِيٌّ، وَمُوسَى بْنُ سَهْلٍ، يَرْوِي عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ.
”أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ” ثَلَاثَةٌ الْقَارِئُ الْمَشْهُورُ، وَالسُّلَمِيُّ الْبَاجَدَائِيُّ صَاحِبُ كِتَابِ الْحَدِيثِ، تُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ، وَآخَرُ حِمْصِيٌّ مَجْهُولٌ.
الرَّابِعُ: ”صَالِحُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ” أَرْبَعَةٌ.
الْخَامِسُ: ”مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ” اثْنَانِ أَحَدُهُمَا الْمَشْهُورُ صَاحِبُ الْجُزْءِ، وَهُوَ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَالْآخَرُ ضَعِيفٌ، يُكَنَّى بِأَبِي سَلَمَةَ.
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ كَبِيرٌ، كَثِيرُ الشُّعَبِ، يَتَحَرَّرُ بِالْعَمَلِ وَالْكَشْفِ عَنْ الشَّيْءِ فِي أَوْقَاتِهِ.
النوع الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ: نَوْعٌ يَتَرَكَّبُ مِنْ النَّوْعَيْنِ قَبْلَهُ
وَلِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ فِيهِ كِتَابُهُ الَّذِي وَسَمَهُ بِتَلْخِيصِ الْمُتَشَابِهِ فِي الرَّسْمِ مِثَالُهُ ”مُوسَى بْنُ عَلِيٍّ” بِفَتْحِ الْعَيْنِ، جَمَاعَةٌ، (مُوسَى بْنُ عُلَيٍّ) بِضَمِّهَا، مِصْرِيٌّ يَرْوِي عَنْ التَّابِعِينَ.
وَمِنْهُ ”المُخَرَّمِيُّ”، وَالْمَخْرَمِيُّ”.
وَمِنْهُ ”ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ الْحِمْصِيُّ”، وَثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ الدِّيلِيُّ الْحِجَازِيُّ” وَ”أَبُو عُمَرَ الشَّيْبَانِيُّ” النَّحْوِيُّ، إِسْحَاقُ بْنُ مِرَارٍ، وَ”يَحْيَى بْنُ أَبِي عَمْرٍو السَّيْبَانِيُّ”.
”عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ النَّيْسَابُورِيُّ”، شَيْخُ مُسْلِمٍ، وَ”عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ” الْحَدَثِيُّ يَرْوِي عَنْهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ.
النوع السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ: فِي صِنْفٍ آخَرَ مِمَّا تَقَدَّمَ
وَمَضْمُونُهُ فِي الْمُتَشَابِهِينَ فِي الِاسْمِ وَاسْمِ الْأَبِ أَوْ النِّسْبَةِ، مَعَ الْمُفَارَقَةِ فِي الْمُقَارَنَةِ، هَذَا مُتَقَدِّمٌ وَهَذَا مُتَأَخِّرٌ.
مِثَالُهُ
(يَزِيدُ بْنُ الْأَسْوَدِ) خُزَاعِيٌّ صَحَابِيٌّ، وَ(يَزِيدُ بْنُ الْأَسْوَدِ) الْجُرْشِيُّ، أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَسَكَنَ الشَّامِ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَسْقَى بِهِ مُعَاوِيَةُ.
وَأَمَّا (الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ)، فَذَاكَ تَابِعِيٌّ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
(الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ) الدِّمَشْقِيُّ، تِلْمِيذُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَشَيْخُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَلَهُمْ آخَرُ بَصْرِيٌّ تَابِعِيٌّ.
فَأَمَّا (مُسْلِمُ بْنُ الْوَلِيدِ رَبَاحٌ) فَذَاكَ مَدَنِيٌّ، يَرْوِي عَنْهُ الدَّرَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ وَقَدْ وَهِمَ الْبُخَارِيُّ فِي تَسْمِيَتِهِ لَهُ فِي تَارِيخِهِ (بِالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(قُلْتُ): وَقَدْ اعْتَنَى شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ فِي تَهْذِيبِهِ بِبَيَانِ ذَلِكَ، وَمَيَّزَ الْمُتَقَدِّمَ وَالْمُتَأَخِّرَ مِنْ هَؤُلَاءِ بَيَانًا حَسَنًا، وَقَدْ زِدْتُ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ حَسَنَةً فِي كِتَابِي (التَّكْمِيلِ) وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
النوع السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: مَعْرِفَةُ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى غَيْرِ آبَائِهِمْ
وَهُمْ أَقْسَامٍ:
(أَحَدُهَا) الْمَنْسُوبُونَ إِلَى أُمَّهَاتِهِمْ كَمُعَاذٍ وَمُعَوِّذٍ، ابْنَيْ (عَفْرَاءَ)، وَهُمَا اللَّذَانِ أَثْبَتَا أَبَا جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأُمُّهُمْ هَذِهِ عَفْرَاءُ بِنْتُ عُبَيْدٍ، وَأَبُوهُمْ الْحَارِثُ بْنُ رِفَاعَةَ الْأَنْصَارِيُّ وَلَهُمْ آخَرُ شَقِيقٌ لَهُمَا (عَوْذٌ)، وَيُقَالُ (عَوْنٌ) وَقِيلَ (عَوْفٌ) فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بِلَالُ ابْنُ (حَمَامَةَ) الْمُؤَذِّنُ، أَبُوهُ رَبَاحٌ.
ابْنُ (أُمِّ مَكْتُومٍ) الْأَعْمَى الْمُؤَذِّنُ أَيْضًا، وَقَدْ كَانَ يَؤُمُّ أَحْيَانًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَيْبَتِهِ، قِيلَ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَائِدَةَ، وَقِيلَ عَمْرُو ابْنُ قَيْسٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ (اللُّتَبِيِّةِ) وَقِيلَ (الْأُتْبِيَّةِ) صَحَابِيٌّ.
سُهَيْلُ ابْنُ (بَيْضَاءَ) وَأَخَوَاهُ مِنْهَا سَهْلٌ وَصَفْوَانُ، وَاسْمُ بَيْضَاءَ (دَعْدٌ) وَاسْمُ أَبِيهِمْ وَهْبٌ.
شُرَحْبِيلُ ابْنُ (حَسَنَةَ) أَحَدُ أُمَرَاءِ الصَّحَابَةِ عَلَى الشَّأْمِ، هِيَ أُمُّهُ، وَأَبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُطَاعِ الْكِنْدِيُّ.
عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ (بُحَيْنَةَ)، وَهِيَ أُمُّهُ، وَأَبُوهُ مَالِكُ بْنُ الْقِشْبِ الْأَسَدِيُّ.
سَعْدُ ابْنُ (حَبْتَةَ) هِيَ أُمُّهُ، وَأَبُوهُ بُجَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ.
وَمِنْ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ
مُحَمَّدُ ابْنُ (الْحَنَفِيَّةِ)، وَاسْمُهَا (خَوْلَةُ)، وَأَبُوهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، هِيَ أُمُّهُ، وَأَبُوهُ إِبْرَاهِيمُ، وَهُوَ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَمِنْ كِبَارِ الصَّالِحِينَ.
(قُلْتُ): فَأَمَّا ابْنُ عُلَيَّةَ الَّذِي يَعْزُو إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، فَهُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ هَذَا، وَقَدْ كَانَ مُبْتَدِعًا يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ.
ابْنُ (هَرَاسَةَ) هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ ابْنُ هَرَاسَةَ، قَالَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْمِصْرِيُّ: هِيَ أُمُّهُ، وَاسْمُ أَبِيهِ (سَلَمَةُ).
وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَدْ يُنْسَبُ إِلَى جَدَّتِهِ، كَيَعْلَى ابْنِ (مُنْيَةَ)، قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: هِيَ أُمُّ أَبِيهِ (أُمَيَّةَ).
وَبَشِيرُ ابْنُ (الْخَصَاصِيَةِ): اسْمُ أَبِيهِ (مَعْبَدٌ)، (وَالْخَصَاصِيَةُ) أُمُّ جَدِّهِ الثَّالِثِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو: وَمَنْ أَحْدَثَ ذَلِكَ عَهْدًا شَيْخُنَا أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَلِيٍّ الْبَغْدَادِيُّ، يُعْرَفُ بِابْنِ (سُكَيْنَةَ)، وَهِيَ أُمُّ أَبِيهِ.
(قُلْتُ): وَكَذَلِكَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ (أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ)، هِيَ أُمُّ أَحَدِ أَجْدَادِهِ الْأَبْعَدِينَ، وَهُوَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ الْحَرَّانِيُّ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى جَدِّهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى الْبَغْلَةِ يَرْكُضُهَا إِلَى نَحْوِ الْعَدُوِّ، وَهُوَ يُنَوِّهُ بِاسْمِهِ يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
وَكَأَبِي عُبَيْدَةَ ابْنِ الْجَرَّاحِ، وَهُوَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَرَّاحِ الْفِهْرِيُّ، أَحَدُ الْعَشَرَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ لُقِّبَ بِأَمِيرِ الْأُمَرَاءِ بِالشَّأْمِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ بَعْدَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
مُجَمِّعُ ابْنُ جَارِيَةَ، هُوَ مُجَمِّعُ بْنُ يَزِيدَ ابْنِ جَارِيَةَ.
ابْنُ جُرَيْجٍ، هُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ.
ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذِئْبٍ.
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ، هُوَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلَ الشَّيْبَانِيُّ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ.
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَبْسِيُّ، صَاحِبُ الْمُصَنَّفِ، وَكَذَا أَخَوَاهُ عُثْمَانُ الْحَافِظُ، وَالْقَاسِمُ.
أَبُو سَعِيدٍ بْنُ يُونُسَ صَاحِبُ تَارِيخِ مِصْرَ، هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ بْنِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ.
وَمِمَّنْ نُسِبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ
الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَهُوَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ الْكِنْدِيُّ الْبَهْرَانِيُّ، وَ”الْأَسْوَدُ” هُوَ ابْنُ عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيُّ، وَكَانَ زَوْجَ أُمِّهِ، وَهُوَ رَبِيبُهُ، فَتَبَنَّاهُ، فَنُسِبَ إِلَيْهِ.
الْحَسَنُ بْنُ دِينَارٍ، هُوَ الْحَسَنُ بْنُ وَاصِلٍ، وَ”دِينَارٌ” زَوْجُ أُمِّهِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ الْحَسَنُ بْنُ دِينَارِ بْنِ وَاصِلٍ.
النوع الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ: فِي النَّسَبِ الَّتِي عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهَا
وَذَلِكَ كَأَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو ”الْبَدْرِيِّ” زَعَمَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ، قَالُوا: إِنَّمَا سَكَنَ بَدْرًا فَنُسِبَ إِلَيْهَا.
سُلَيْمَانُ بْنُ طَرْخَانَ ”التَّيْمِيُّ” لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا نَزَلَ فِيهِمْ، فَنُسِبَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ كَانَ مِنْ مَوَالِي بَنِي مُرَّةَ.
أَبُو خَالِدٍ ”الدَّالَانِيُّ” بَطْنٌ مِنْ هَمَدَانَ، نَزَلَ فِيهِمْ أَيْضًا، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ مَوَالِي بَنِي أَسَدٍ.
إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ ”الْخُوزِيُّ”: إِنَّمَا نَزَلَ شِعْبَ الْخُوزِ بِمَكَّةَ.
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ”العَرْزَمِيُّ” وَهُمْ بَطْنٌ مِنْ فَزَارَةَ، نَزَلَ فِي جَبَّانَتِهِمْ بِالْكُوفَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ ”العَوَقيُّ” ”: بَطْنٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَهُوَ بَاهِلِيٌّ، لَكِنَّهُ نَزَلَ عِنْدَهُمْ بِالْبَصْرَةِ.
أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ”: شَيْخُ مُسْلِمٍ، هُوَ أَزْدِيٌّ، وَلَكِنَّهُ نُسِبَ إِلَى قَبِيلَةِ أُمِّهِ وَكَذَلِكَ حَفِيدُهُ أَبُو عَمْرٍو إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ ”السُّلَمِيُّ” حَفِيدُ هَذَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ”السُّلَمِيُّ” الصُّوفِيُّ.
وَمِنْ ذَلِكَ مِقْسَمٌ ”مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ” لِلُزُومِهِ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْلَى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ.
وَخَالِدٌ ”الْحَذَّاءُ” إِنَّمَا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ لِجُلُوسِهِ عِنْدَهُمْ.
وَيَزِيدُ ”الْفَقِيرُ” لِأَنَّهُ كَانَ يَأْلَمُ مِنْ فَقَارِ ظَهْرِهِ.
النوع التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ: فِي مَعْرِفَةِ الْمُبْهَمَاتِ مِنْ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَقَدْ صَنَّفَ فِي ذَلِكَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْمِصْرِيُّ، وَالْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ، وَغَيْرُهُمَا.
وَهَذَا إِنَّمَا يُسْتَفَادُ مِنْ رِوَايَةٍ أُخْرَى مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ، كَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْحَجُّ كُلَّ عَامٍ?» هُوَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ «أَنَّهُمْ مَرُّوا بِحَيٍّ قَدْ لُدِغَ سَيِّدُهُمْ، فَرَقَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ» وَهُوَ أَبُو سَعِيدٍ نَفْسُهُ فِي أَشْبَاهٍ لِهَذَا كَثِيرَةٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا.
وَقَدْ اعْتَنَى ابْنُ الْأَثِيرِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِهِ ”جَامِعِ الْأُصُولِ” بِتَحْرِيرِهَا، وَاخْتَصَرَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ كِتَابَ الْخَطِيبِ فِي ذَلِكَ.
وَهُوَ فَنُّ قَلِيلُ الْجَدْوَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ مِنَ الْحَدِيثِ، وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ يَتَحَلَّى بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ.
وَأَهَمُّ مَا فِيهِ مَا رَفَعَ إِبْهَامًا فِي إِسْنَادٍ كَمَا إِذَا وَرَدَ فِي سَنَدٍ عَنْ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ، أَوْ عَنْ أَبِيهِ، أَوْ عَمِّهِ، أَوْ أُمِّهِ فَوَرَدَتْ تَسْمِيَةُ هَذَا الْمُبْهَمِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، فَإِذَا هُوَ ثِقَةٌ أَوْ ضَعِيفٌ، أَوْ مِمَّنْ يُنْظَرُ فِي أَمْرِهِ، فَهَذَا أَنْفَعُ مَا فِي هَذَا.
النوع الْمُوفِي السِّتِّينَ: مَعْرِفَةُ وَفَيَاتِ الرُّوَاةِ وَمَوَالِيدِهِمْ وَمِقْدَارِ أَعْمَارِهِمْ
لِيُعْرَفَ مَنْ أَدْرَكَهُمْ مِمَّنْ لَمْ يُدْرِكْهُمْ مِنْ كَذَّابٍ أَوْ مُدَلِّسٍ، فَيَتَحَرَّرُ الْمُتَّصِلُ وَالْمُنْقَطِعُ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لَمَّا اسْتَعْمَلَ الرُّوَاةُ الْكَذِبَ اسْتَعْمَلْنَا لَهُمْ التَّأْرِيخَ.
وَقَالَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ: إِذَا اتَّهَمْتُمْ الشَّيْخَ فَحَاسِبُوهُ بِالسِّنِينَ.
وَقَالَ الْحَاكِمُ: لَمَّا قَدِمَ عَلَيْنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ الْكَشِّيُّ فَحَدَّثَ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، سَأَلْتُهُ عَنْ مَوْلِدِهِ؟ فَذَكَرَ أَنَّهُ وُلِدَ سَنَةً سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِنَا إِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: شَخْصَانِ مِنْ الصَّحَابَةِ عَاشَ كُلٌّ مِنْهُمَا سِتِّينَ سَنَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَسِتِّينَ فِي الْإِسْلَامِ، وَهُمَا حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ حَرَامٍ عَاشَ كُلٌّ مِنْهُمْ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً قَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ: وَلَا يُعْرَفُ هَذَا لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ.
(قُلْتُ): قَدْ عَمَّرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ أَرْبَعَةَ نَسَقًا يَعِيشُ كُلٌّ مِنْهُمْ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، لَمْ يَتَّفِقْ هَذَا فِي غَيْرِهِمْ.
وَأَمَّا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، فَقَدْ حَكَى الْعَبَّاسُ بْنُ يَزِيدَ الْبَحْرَانِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ عَاشَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إِلَى ثَلَاثِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً
وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو ابْنُ الصَّلَاحِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفَيَاتِ أَعْيَانٍ مِنَ النَّاسِ!.
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، عَلَى الْمَشْهُورِ، يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ
وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ أَيْضًا، فِي جُمَادَى (الْأُولَى) سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ.
وَعُمَرُ عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ أَيْضًا، فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ.
(قُلْتُ): وَكَانَ عُمَرُ أَوَّلَ مَنْ أَرَّخَ التَّأْرِيخَ الْإِسْلَامِيَّ بِالْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، كَمَا بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي سِيرَتِهِ وَفِي كِتَابِنَا التَّأْرِيخِ، وَكَانَ أَمْرُهُ بِذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ.
وَقُتِلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، وَقِيلَ بَلَغَ التِّسْعِينَ، فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ.
وَعَلِيٌّ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ فِي قَوْلٍ.
وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ قُتِلَا يَوْمَ الْجَمَلِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، قَالَ الْحَاكِمُ وَسِنُّ كُلٍّ مِنْهُمَا أَرْبَعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً.
وَتُوُفِّيَ سَعْدٌ عَنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ، وَكَانَ آخِرَ مَنْ تُوُفِّيَ مِنَ الْعَشَرَةِ.
وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَلَهُ ثَلَاثٌ أَوْ أَرْبَعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً.
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَنْ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ
وَأَبُو عُبَيْدَةَ: سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، وَلَهُ ثَمَانٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
(قُلْتُ): وَأَمَّا الْعَبَادِلَةُ:.
فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ سَنَةَ ثَمَانِ وَسِتِّينَ
وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ
وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَلَيْسَ مِنْهُمْ، قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ، خِلَافًا لِلْجَوْهَرِيِّ حَيْثُ عَدَّهُ مِنْهُمْ، وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: (الثَّالِثُ) أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ الْخَمْسَةِ الْمَتْبُوعَةِ
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ تُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ، سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، وَلَهُ أَرْبَعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً
وَتُوُفِّيَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ بِالْمَدِينَةِ، سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ
وَتُوُفِّيَ أَبُو حَنِيفَةَ بِبَغْدَادَ، سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَلَهُ سَبْعُونَ سَنَةً
وَتُوُفِّيَ الشَّافِعِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ بِمِصْرَ، سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ، عَنْ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً
وَتُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِبَغْدَادَ، سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، عَنْ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً
(قُلْتُ): وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الشَّامِ عَلَى مَذْهَبِ الْأَوْزَاعِيِّ نَحْوًا مِنْ مِائَتَيْ سَنَةٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ، بِبَيْرُوتَ مِنْ سَاحِلِ الشَّامِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ (سَبْعُونَ سَنَةً).
وَكَذَلِكَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ قَدْ كَانَ إِمَامًا مُتَّبَعًا، لَهُ طَائِفَةٌ يُقَلِّدُونَهُ وَيَجْتَهِدُونَ عَلَى مَسْلَكِهِ، يُقَالُ لَهُمْ الْإِسْحَاقِيَّةُ، وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، عَنْ (سَبْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً).
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ:
(الرَّابِعُ) أَصْحَابُ كُتُبِ الْحَدِيثِ الْخَمْسَةِ.
الْبُخَارِيُّ وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَمَاتَ لَيْلَةَ عِيدِ الْفِطْرِ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، بِقَرْيَةِ يُقَالُ لَهَا خَرْتَنْكُ.
وَمُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ تُوُفِّيَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، عَنْ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً.
أَبُو دَاوُدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ.
التِّرْمِذِيُّ بَعْدَهُ بِأَرْبَعِ سِنِينَ (سَنَةَ) تِسْعٍ وَسَبْعِينَ.
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
(قُلْتُ): وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مَاجَهْ الْقَزْوِينِيُّ، صَاحِبُ السُّنَنِ الَّتِي كَمَّلَ بِهَا الْكُتُبَ السِّتَّةَ السُّنَنُ الْأَرْبَعَةُ بَعْدَ الصَّحِيحَيْنِ، الَّتِي اعْتَنَى بِأَطْرَافِهَا الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَكَذَلِكَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ اعْتَنَى بِرِجَالِهَا وَأَطْرَافِهَا، وَهُوَ كِتَابٌ قَوِيُّ التَّبْوِيبِ فِي الْفِقْهِ، وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ- رَحِمَهُمْ اللَّهُ.
قَالَ (الْخَامِسُ) سَبْعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ انْتُفِعَ بِتَصَانِيفِهِمْ فِي أَعْصَارِنَا
أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، عَنْ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً
الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ
عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْمِصْرِيُّ فِي صَفَرٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ بِمِصْرَ، عَنْ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً
الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَلَهُ سِتٌّ وَتِسْعُونَ سَنَةً.
وَمِنْ الطَّبَقَةِ الْأُخْرَى:
الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ النَّمْرِيُّ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً.
ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْبَيْهَقِيُّ تُوُفِّيَ بِنَيْسَابُورَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، عَنْ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ بْنُ عَلِيٍّ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، عَنْ إِحْدَى وَسَبْعِينَ سَنَةً.
(قُلْتُ): وَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ مَعَ هَؤُلَاءِ جَمَاعَةً اشْتَهَرَتْ تَصَانِيفُهُمْ بَيْنَ النَّاسِ- وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ- كَالطَّبَرَانِيِّ وَقَدْ تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، صَاحِبِ الْمَعَاجِمِ الثَّلَاثَةِ وَغَيْرِهَا، وَالْحَافِظِ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ (تُوُفِّيَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ)، وَالْحَافِظِ أَبِي بَكْرٍ الْبَزَّارِ (تُوُفِّيَ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ) وَإِمَامِ الْأَئِمَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ تُوُفِّيَ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، صَاحِبِ الصَّحِيحِ.
وَكَذَلِكَ أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ حِبَّانَ الْبُسْتِيُّ، صَاحِبُ الصَّحِيحِ أَيْضًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
وَالْحَافِظُ أَبُو حَمَدٍ بْنُ عَدِيٍّ، صَاحِبُ الْكَامِلِ، تُوُفِّيَ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
النوع الْحَادِي وَالسِّتُّونَ: مَعْرِفَةُ الثِّقَاةِ وَالضُّعَفَاءِ مِنْ الرُّوَاةِ وَغَيْرِهِمْ
وَهَذَا الْفَنُّ مِنْ أَهَمِّ الْعُلُومِ وَأَعْلَاهَا وَأَنْفَعِهَا، إِذْ بِهِ تُعْرَفُ صِحَّةُ سَنَدِ الْحَدِيثِ مِنْ ضَعْفِهِ.
وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا كُتُبًا كَثِيرَةً مِنْ أَنْفَعِهَا كِتَابُ ابْنِ حَاتِمٍ وَلِابْنِ حِبَّانَ كِتَابَانِ نَافِعَانِ أَحَدُهُمَا فِي الثِّقَاةِ، وَالْآخَرُ فِي الضُّعَفَاءِ وَكِتَابُ الْكَامِلِ لِابْنِ عَدِيٍّ.
وَالتَّوَارِيخُ الْمَشْهُورَةُ، وَمِنْ أَجَلِّهَا تَارِيخُ بَغْدَادَ لِلْحَافِظِ أَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْخَطِيبِ وَتَارِيخُ دِمَشْقَ لِلْحَافِظِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ عَسَاكِرَ وَتَهْذِيبُ شَيْخِنَا الْحَافِظِ أَبِي الْحَجَّاجِ الْمِزِّيِّ وَمِيزَانُ شَيْخِنَا الْحَافِظِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيِّ.
وَقَدْ جَمَعْتُ بَيْنَهُمَا وَزِدْتُ فِي تَحْرِيرِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ عَلَيْهِمَا، فِي كِتَابٍ، وَسَمَّيْتُهُ ”التَّكْمِيلُ فِي مَعْرِفَةِ الثِّقَاتِ وَالضُّعَفَاءِ وَالْمَجَاهِيلِ” وَهُوَ مِنْ أَنْفَعِ شَيْءٍ لِلْفَقِيهِ الْبَارِعِ، وَكَذَلِكَ لِلْمُحَدِّثِ.
وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي جَرْحِ الرِّجَالِ عَلَى وَجْهِ النَّصِيحَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِغِيبَةٍ، بَلْ يُثَابُ بِتَعَاطِي ذَلِكَ إِذَا قَصَدَ بِهِ ذَلِكَ.
وَقَدْ قِيلَ لِيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ أَمَا تَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَرَكْتَ حَدِيثَهُمْ خُصَمَاءَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: لِأَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ خُصَمَائِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصْمِي يَوْمَئِذٍ، (يَقُولُ لِي لِمَ لَمْ تَذُبَّ الْكَذِبَ عَنْ حَدِيثِي؟).
وَقَدْ سَمِعَ أَبُو تُرَابٍ النَّخْشَبِيُّ أَحْمَدَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلَ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ فِي بَعْضِ الرُّوَاةِ فَقَالَ لَهُ: أَتَغْتَابُ الْعُلَمَاءَ؟! فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ! هَذَا نَصِيحَةٌ، لَيْسَ هَذَا غِيبَةً.
وَيُقَالُ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ تَصَدَّى لِلْكَلَامِ فِي الرُّوَاةِ شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ، وَتَبِعَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، ثُمَّ تَلَامِذَتُهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْفَلَّاسِ، وَغَيْرُهُمْ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ، وَهِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَقَدْ قَالَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ».
وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي غَيْرِهِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْعَدَاوَةِ الْمَعْلُومَةِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ كَلَامَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ فِي الْإِمَامِ مَالِكٍ، وَكَذَا كَلَامُ مَالِكٍ فِيهِ، وَقَدْ وَسَّعَ السُّهَيْلِيُّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ كَلَامُ النَّسَائِيِّ فِي أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ الْمِصْرِيِّ حِينَ مَنَعَهُ مِنْ حُضُورِ مَجْلِسِهِ.
النوع الثَّانِي وَالسِّتُّونَ: مَعْرِفَةُ مَنْ اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ
إِمَّا لِخَوْفٍ أَوْ ضَرَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ عَرَضٍ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ، لَمَّا ذَهَبَتْ كُتُبُهُ اخْتَلَطَ فِي عَقْلِهِ، فَمَنْ سَمِعَ مِنْ هَؤُلَاءِ قَبْلَ اخْتِلَاطِهِمْ قُبِلَتْ رِوَايَتُهُمْ، وَمَنْ سَمِعَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ شَكَّ فِي ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ.
وَمِمَّنْ اخْتَلَطَ بِأَخَرَةٍ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، وَأَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْخَلِيلِيُّ: وَإِنَّمَا سَمِعَ ابْنُ عُيَيْنَةَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، وَكَانَ سَمَاعُ وَكِيعٍ وَالْمُعَافَى بْنِ عِمْرَانَ مِنْهُ بَعْدَ اخْتِلَاطِهِ وَالْمَسْعُودِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَصَالِحٌ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ، وَحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَهُ النَّسَائِيُّ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَتَيْنِ، قَالَهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، قَالَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: اخْتَلَطَ بَعْدَمَا عَمِيَ، فَكَانَ يُلَقَّنُ، فَيَتَلَقَّنُ فَمَنْ سَمِعَ مِنْهُ بَعْدَمَا عَمِيَ فَلَا شَيْءَ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ” وَقَدْ وَجَدْتُ فِيمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الدَّبَرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَحَادِيثَ مُنْكَرَةً، فَلَعَلَّ سَمَاعَهُ كَانَ مِنْهُ بَعْدَ اخْتِلَاطِهِ وَذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ أَنَّ الدَّبَرِيَّ كَانَ عُمْرُهُ حِينَ مَاتَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ سِتًّا أَوْ سَبْعَ سِنِينَ وَعَارِمٌ اخْتَلَطَ بِأَخَرَةٍ.
وَمِمَّنْ اخْتَلَطَ مِمَّنْ بَعْدَ هَؤُلَاءِ أَبُو قِلَابَةَ الرَّقَاشِيُّ، وَأَبُو أَحْمَدَ الْغِطْرِيفِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ بْنُ مَالِكٍ الْقُطَيْعِيُّ، خَرِفَ حَتَّى كَانَ لَا يَدْرِي مَا يَقْرَأُ.
النوع الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ: مَعْرِفَةُ الطَّبَقَاتِ
وَذَلِكَ أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَرَى الصَّحَابَةَ كُلَّهُمْ طَبَقَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ التَّابِعُونَ بَعْدَهُمْ كَذَلِكَ وَيَسْتَشْهِدُ عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» فَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُقَسِّمُ الصَّحَابَةَ إِلَى طَبَقَاتٍ، وَكَذَلِكَ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ كُلَّ قَرْنٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
وَمِنْ أَجَلِّ الْكُتُبِ فِي هَذَا طَبَقَاتُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ كَاتِبِ الْوَاقِدِيِّ وَكَذَلِكَ كِتَابُ التَّارِيخِ لِشَيْخِنَا الْعَلَّامَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَهُ كِتَابُ طَبَقَاتِ الْحُفَّاظِ، مُفِيدٌ أَيْضًا جِدًّا.
النوع الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ: مَعْرِفَةُ الْمَوَالِي مِنْ الرُّوَاةِ وَالْعُلَمَاءِ
وَهُوَ مِنَ الْمُهِمَّاتِ، فَرُبَّمَا نُسِبَ أَحَدُهُمْ إِلَى الْقَبِيلَةِ، فَيَعْتَقِدُ السَّامِعُ أَنَّهُ مِنْهُمْ صَلِيبَةٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مَوَالِيهِمْ فَيُمَيِّزُ ذَلِكَ لِيُعْلَمَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ».
وَمِنْ ذَلِكَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ ”الطَّائِيُّ” وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ فَيْرُوزَ، وَهُوَ مَوْلَاهُمْ وَكَذَلِكَ أَبُو الْعَالِيَةِ ”الرِّيَاحِيُّ” وَكَذَلِكَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ”الْفَهْمِيُّ” وَكَذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ ”الْقُرَشِيُّ”، وَهُوَ مَوْلَى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ وَهَذَا كَثِيرٌ.
فَأَمَّا مَا يُذْكَرُ فِي تَرْجَمَةِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ ”مَوْلَى الْجُعْفِيِّينَ” فَلِإِسْلَامِ جَدِّهِ الْأَعْلَى عَلَى يَدِ بَعْضِ الْجُعْفِيِّينَ.
وَكَذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ عِيسَى الْمَاسَرْجَسِيُّ يُنْسَبُ إِلَى وَلَاءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، بِأَنَّهُ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا.
وَقَدْ يَكُونُ بِالْحَلِفِ، كَمَا يُقَالُ فِي نَسَبِ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ”مَوْلَى التَّيْمِيِّينَ”، وَهُوَ حِمْيَرِيٌّ أَصْبُحِيٌّ صَلِيبَةٌ، وَلَكِنْ كَانَ جَدُّهُ مَالِكُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ حَلِيفًا لَهُمْ، وَقَدْ كَانَ عَسِيفًا عِنْدَ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ أَيْضًا، فَنُسِبَ إِلَيْهِمْ كَذَلِكَ.
وَقَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ سَادَاتِ الْعُلَمَاءِ فِي زَمَنِ السَّلَفِ مِنَ الْمَوَالِي، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا تَلَقَّاهُ نَائِبُ مَكَّةَ أَثْنَاءَ الطَّرِيقِ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، قَالَ لَهُ: مَنْ اسْتَخْلَفْتَ مِنْ أَهْلِ الْوَادِي؟ قَالَ ابْنُ أَبْزَى، قَالَ وَمَنْ ابْنُ أَبْزَى؟ قَالَ رَجُلٌ: مِنَ الْمَوَالِي، فَقَالَ: أَمَا إِنِّي سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْعِلْمِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ».
وَذَكَرَ الزُّهْرِيُّ أَنَّ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ لَهُ: مَنْ يَسُودُ مَكَّةَ؟ فَقُلْتُ عَطَاءٌ، قَالَ: فَأَهْلُ الْيَمَنِ؟ قُلْتُ طَاوُسٌ، قَالَ: فَأَهْلُ الشَّامِ؟ فَقُلْتُ مَكْحُولٌ، قَالَ: فَأَهْلُ مِصْرَ؟ قُلْتُ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، قَالَ فَأَهْلُ الْجَزِيرَةِ؟ فَقُلْتُ: مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ، قَال:َ فَأَهْلُ خُرَاسَانَ؟ قُلْتُ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ، قَالَ: فَأَهْلُ الْبَصْرَةِ؟ فَقُلْتُ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ، قَالَ: فَأَهْلُ الْكُوفَةِ؟ فَقُلْتُ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَذَكَرَ أَنَّهُ يَقُولُ لَهُ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ أَمِنَ الْعَرَبِ أَمْ مِنَ الْمَوَالِي؟ فَيَقُولُ مِنَ الْمَوَالِي، فَلَمَّا انْتَهَى قَالَ: يَا زُهْرِيُّ، وَاللَّهِ لِتَسُودَنَّ الْمَوَالِي عَلَى الْعَرَبِ حَتَّى يُخْطَبَ لَهَا عَلَى الْمَنَابِرِ وَالْعَرَبُ تَحْتَهَا، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا هُوَ أَمْرُ اللَّهِ وَدِينُهُ، فَمَنْ حَفِظَهُ سَادَ، وَمَنْ ضَيَّعَهُ سَقَطَ.
(قُلْتُ): وَسَأَلَ بَعْضُ الْأَعْرَابِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَقَالَ: مَنْ هُوَ سَيِّدُ هَذِهِ الْبَلْدَةِ؟ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: أَمَوْلَى هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَبِمَ سَادَهُمْ؟ فَقَالَ بِحَاجَتِهِمْ إِلَى عِلْمِهِ وَعَدَمِ احْتِيَاجِهِ إِلَى دُنْيَاهُمْ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ هَذَا لَعَمْرُ أَبِيكَ هُوَ السُّؤْدُدُ.
النوع الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ: مَعْرِفَةُ أَوْطَانِ الرُّوَاةِ وَبُلْدَانِهِمْ
وَهُوَ مِمَّا يَعْتَنِي بِهِ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ، وَرُبَّمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ فَوَائِدُ مُهِمَّةٌ.
مِنْهَا مَعْرِفَةُ شَيْخِ الرَّاوِي، فَرُبَّمَا اشْتَبَهَ بِغَيْرِهِ، فَإِذَا عَرَفْنَا بَلَدَهُ تَعَيَّنَ بَلَدِيُّهُ غَالِبًا، وَهَذَا مُهِمٌّ جَلِيلٌ.
وَقَدْ كَانَتْ الْعَرَبُ إِنَّمَا يُنْسَبُونَ إِلَى الْقَبَائِلِ وَالْعَمَائِرِ وَالْعَشَائِرِ وَالْبُيُوتِ، وَالْعَجَمُ إِلَى شُعُوبِهَا وَرَسَاتِيقِهَا وَبُلْدَانِهَا، وَبَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى أَسْبَاطِهَا فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَانْتَشَرَ النَّاسُ فِي الْأَقَالِيمِ، نُسِبُوا إِلَيْهَا، أَوْ إِلَى مُدُنِهَا أَوْ قُرَاهَا.
فَمَنْ كَانَ مِنْ قَرْيَةٍ فَلَهُ الِانْتِسَابُ إِلَيْهَا بِعَيْنِهَا، وَإِلَى مَدِينَتِهَا- إِنْ شَاءَ اللَّهُ- أَوْ إِقْلِيمِهَا، وَمَنْ كَانَ مِنْ بَلْدَةٍ ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا فَلَهُ الِانْتِسَابُ إِلَى أَيِّهِمَا شَاءَ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَذْكُرَهُمَا، فَيَقُولَ مَثَلاً الشَّامِيُّ ثُمَّ الْعِرَاقِيُّ، أَوْ الدِّمَشْقِيُّ ثُمَّ الْمِصْرِيُّ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا يَسُوغُ الِانْتِسَابُ إِلَى الْبَلَدِ إِذَا أَقَامَ فِيهِ أَرْبَعَ سِنِينَ فَأَكْثَرَ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ وَاللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَهَذَا آخِرُ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ”اخْتِصَارُ عُلُومِ الْحَدِيثِ” وَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
0 comments on “كتاب: اختصار علوم الحديث”